مآخذ على المعارضة التونسية

26 اغسطس 2022

تونسيون في "مواطنون ضد الانقلاب" يتظاهرون في العاصمة ضد قيس سعيّد (15/5/2022/Getty)

+ الخط -

تُعتبر الأحزاب المعارضة ركنا متينا من أركان البناء الديمقراطي في الدّول المتقدّمة، فعليها المعوّل في ترسيخ ثقافة الاختلاف والتنافس السلمي على السلطة، وتمثيل المواطنين في البرلمان، وفي الهيئات المدنيّة الجمعوية والنّقابيّة وغيرها، وهي عنصرٌ وازن يساهم في توجيه سياسات الدّولة العامّة، وقيادة المنظومة السياسيّة المناوئة للنّظام الحاكم. ذلك أنّها تتفاعل مع قراراته وبرامجه، ومنجزاته بالقبول حينا، وبالنّقد والرّفض، واقتراح البدائل أحيانا. وتعدّدت الأحزاب المعارضة في تونس بعد ثورة 2011. وخرجت من طور السّريّة إلى رحاب العمل العلني. وكان لها دور فاعل، سلبا أو إيجابا، في توجيه مسارات الانتقال الديمقراطي خلال العشريّة المنقضية.

وإثر حركة 25 يوليو (2021)، وإعلان الرّئيس قيس سعيّد جملة من التّدابير الاستثنائيّة، في مقدّمتها تجميد البرلمان ثم حله، وإقالة الحكومة، وتهميش دستور 2014، وإدارة البلاد بالمراسيم، تشكّل في المشهد السّياسي التّونسي تيّارٌ معارض واسع، تكوّن أساسا من حركة "مواطنون ضد الانقلاب" التّي تطوّرت بالتّدريج لتصبح "جبهة الخلاص الوطني" (حركة النّهضة، ائتلاف الكرامة، قلب تونس)، وجبهة الأحزاب الديمقراطيّة الاجتماعيّة (التّيار الديمقراطي، حزب العمّال، الحزب الجمهوري، التكتل من أجل العمل والحريّات، حزب القطب)، إلى جانب الحزب الدّستوري الحرّ. وتلتقي هذه المكوّنات الحزبيّة عند إدانة حكم الاستثناء، والتّمدّد السلطوي للرئيس قيس سعيّد بعد 25/07/2021. ونجحت نسبيّا في تحشيد النّاس للتّظاهر ضد سياساته، وفي دفعهم إلى العزوف عن الاستشارة الرّئاسيّة، ومقاطعة الاستفتاء على الدّستور الجديد الذي وضعه الرّئيس. لكن ذلك لا يمنع من أنّ أداء الطّيف المعارض يفتقر إلى النّجاعة، واعترته ثغراتٌ ظاهرة، خصوصا في مستوى الارتهان لمنطق الانتظاريّة والتّرقب، والتّفويت في معركة البرلمان، والالتزام بتقليديّة القيادة، وغلبة التّشتت وهاجس الإقصاء والإقصاء المضادّ على جلّ المعارضين.

غلق البرلمان باعتباره مؤسسة مدنية، تشريعية، منتخبة، هو استهداف لمشروع الدمقرطة في كلّيته

والواقع أنّ الانتظارية حالةٌ لازمت معظم الفاعلين السياسيين المناوئين لقيس سعيّد، فقد سلك جلّ الأحزاب المعارضة سلوك الترقب والتردّد في اتخاذ قراراتٍ جريئةٍ ضدّ الرجل، عندما رفض قبول وزراء حكومة هشام المشيشي لأداء اليمين، ولمّا رفض ختم قانون المحكمة الدستورية، وعندما أعلن نفسه قائدا للقوّات الأمنية والعسكرية على السواء. ولم تكن مواقف الأحزاب المعارضة من التدابير الاستثنائية التي فرضها حاكم قرطاج إبّان واقعة 25/07/2021 متماثلةً في توصيف ما حصل، وغلب على بعضها لزوم الانتظارية، فلئن بادر حزب العمّال، وحركة النهضة، وائتلاف الكرامة، باعتبار التدابير الرئاسية الطارئة "عملا انقلابيا، وتغييرا لهيئة الدولة، وخروجا عن الدستور"، فإنّ أحزاب التيار الديمقراطي، والدستور الحر، والتكتل من أجل العمل والحرّيات، ظلّت تهادن حكم الاستثناء، ولم تعتبره خروجا عن الشرعية الدستورية والمسار الديمقراطي إلا بعد صدور الأمر الرئاسي عدد 117 الذي منح بمقتضاه قيس سعيّد نفسه صلاحياتٍ تأسيسية، وتشريعية، وتنفيذية واسعة. كما أنّ حركة المعارضة لتحشيد الشارع ضدّ توجّهات الرئيس السلطوية ظلّت ظرفية، مناسباتية، غير مستدامة في الزمان، وغير ممتدّة في المكان، فهي غالبا بمثابة ردود أفعال آنية، متقطّعة على بعض المراسيم الرئاسية أو على مراحل تنفيذ قيس سعيّد خريطة طريقه السياسية. وبذلك ظلّت المعارضة رهينة ثنائية الإثارة والاستجابة، فهي تنتظر الفعل الرئاسي لتردّ عليه. لكنّها لا تمتلك استراتيجيات استباقية لإدارة المواجهة مع معسكر الرئيس، ولم تتمكّن من بلورة برنامج احتجاجي/ تعبوي، موحَّد ومستدام، للحدّ من نفوذه على الأقل في المدى القريب. والحقيقة أنّ الانتظارية الحزبية كانت من أسباب التسليم بحل البرلمان.

يُعدّ البرلمان، عمليّا، ركيزة الديمقراطية التمثيلية، فهو النواة الوالدة للتداول السلمي على الحكم، ولصياغة الدستور، وضمان التوازن بين السلطات، ومأسسة السياسة عموما والعلاقة بين الحاكم والمحكوم خصوصا. ومن ثمّ، فإنّ غلق البرلمان باعتباره مؤسسة مدنية، تشريعية، منتخبة، هو استهداف لمشروع الدمقرطة في كلّيته. ويبدو أنّ طيْفا من النواب غاب عنهم ذلك أو تجاهلوه، فتخاذلوا في الدفاع عن البرلمان، وسلّموا بإعلان الرئيس تجميده أوّلا، وحلّه تاليا. وذلك راجعٌ، في جانب ما، إلى حسابات سياسية ضيّقة، فقد لاذت بعض الأحزاب المعارضة بالصمت، ولم تُدن تعطيل البرلمان بشكل صريح، ولم تدع أنصارها إلى التظاهر ضدّ القرار الرئاسي/ الأحادي بإيقاف أعمال مؤسسة سيادية، منتخبة (التيار الديمقراطي، الدستوري الحر، التكتّل مثالا). كما لم يحرص جلّ النوّاب على ممارسة حقّهم التمثيلي، القانوني، ولم يعتصموا أمام البرلمان دفاعا عن شرعيتهم، بل اختفى أغلبهم من المشهد فيما غادر آخرون البلد. ولم يخرج للالتفاف حول المجلس النيابي، والاحتجاج على تجميده، والمطالبة باستئناف نشاطه التشريعي، سوى أنصار حركة النهضة وائتلاف الكرامة، وبعض قيادات "قلب تونس"، فيما اكتفت بقية الأحزاب بالوقوف على الربوة لمتابعة تطوّرات المشهد ومآلاته.

جلّ الأحزاب المعارضة سلكت سلوك الترقب والتردّد في اتخاذ قراراتٍ جريئةٍ ضدّ سعيّد

ويبدو أنّ بعض المتحزّبين راهنوا على احتدام المعركة بين الإسلاميين ومعسكر الرئيس على نحو يؤدّي إلى إنهاك الطرفين، وقدّروا أن الصراع على البرلمان هو بين رئيسه راشد الغنوشي وقيس سعيّد. والحال أنّ الأمر يتعلّق بمصير مؤسسة نيابية، انتخبها الناس، وفي إلغائها بالقوّة إنهاكٌ للحالة الديمقراطية، وتأسيس لبوادر حكم رئاسوي/ أحادي. والمرجّح أنّ الإسلاميين في تونس قدّروا أنّ التمادي في التظاهر دفاعا عن الشرعية البرلمانية قد يؤدّي إلى اندلاع أعمال عنف، وزجّ آلاف منهم في السجون. لذلك آثرت حركة النهضة، بعد يومين من التظاهر حول مبنى البرلمان، التزام سياسة ضبط النفس، والتراجع إلى الخلف، معتبرة الدفاع عن الديمقراطية شأنا وطنيا، جماعيا، لا شأنا يخصّ أنصارها فحسب. ويبدو أنّها اختارت ذلك النهج تفاديا لاستعادة السيناريو المصري في تونس، فقد أدّى دفاع الإسلاميين عن الشرعية في مصر عقب تنحية محمد مرسي إلى هلاك كثيرين، واعتقال الآلاف، وفرار آخرين إلى المنافي، واختفاء غيرهم قسريا في ظلّ صمت الفاعلين السياسيين المحلّيين والمجتمع الدولي. ومن ثمّ، أدّى تخاذل الشارع السياسي عموما، والمعارض خصوصا، في كسب معركة الدفاع عن البرلمان التونسي المنتخب إلى استفراد قيس سعيّد بالتشريع، والتأسيس، والنفوذ، والقيادة.

على صعيد آخر، خاضت معظم أحزاب المعارضة معركتها ضد مسار 25 يوليو 2021 بوجوه قيادية قديمة، فتصدّر زعماء الأحزاب التّقليديون المنابر الإعلاميّة والوقفات الاحتجاجية والملتقيات الثّقافيّة/ السّجاليّة. وبدا المراد بيان أنّ الوجوه التّاريخيّة المعارضة التي واجهت استبداد الحبيب بورقيبة وخلفِه زين العابدين بن علي قادرة على مواصلة المشوار النضالي، والتّصدّي لانفراد قيس سعيّد بالسّلطة ومحاولته إحياء نظام أحادي/ شمولي. ومع الأهميّة الرّمزيّة للقيادات التّقليديّة للأحزاب، فإنّها فقدت كثيرا من ألقها وجاذبيتها بعد الثّورة، وأصبحت وجوها مكرورة إلى حدٍّ ما، ولم تعد تستهوي تونسيين كثيرين. لذلك، كان أحرى بأحزاب المعارضة إنتاج كفاءاتٍ قياديّة شبابيّة ونسائيّة، ذات خطاب جديد وتقنيات حجاجيّة، تواصليّة، فعّالة، قادرة على لفت انتباه النّاس وإقناعهم برفد تيار معارضة النّظام القائم.

أحْرى بالأحزاب المعارضة خلال هذه المرحلة الدّقيقة من تاريخ تونس، التّفكير في مصلحة المجموعة الوطنيّة

يضاف إلى كلّ ذلك أنّ الطيف المعارض لمسار25/07/2021 لا يحتكم إلى أجندة برامجية موحّدة وطويلة المدى، فجهوده لمقاومة الجموح السلطوي لقيس سعيّد مشتّتة وغير مكثّفة، ولا تشمل كلّ جهات الجمهورية، بل تتركّز أساسا في العاصمة، ولا تمتدّ إلى عموم المناطق الساحلية والداخلية. وجلّ الأنشطة المعارضة منحصرةٌ في الحضور الإعلامي، والدعاية المضادّة للرئيس عبر شبكات التواصل الاجتماعي، وإصدار بيانات إدانة لقراراته، ونادرا ما يتمّ تحويل الفعل الاحتجاجي إلى تحرّكاتٍ شعبيةٍ عارمة. كما أنّ جلّ أحزاب المعارضة لم تغادر بوتقة الـ"دوغما"، وادّعاء امتلاك الحقيقة، وما زالت أسيرة صراعات أيديولوجية قديمة، ولا تقبل بضرورة التنسيق والعمل المشترك لمواجهة خطر الحكم الاستبدادي الداهم، بل تنخرط في صراعاتٍ بينية، صفرية، وتؤسّس للذات عبر تقويض الآخر. خذ مثلا أنّ الحزب الدستوري الحر يعادي كلّ المعارضين الآخرين، ويقدّم نفسه بديلا عن النظام القائم، والحال أنّه يتوعّد كلّ الثوريين والإسلاميين بالإقصاء، والتهميش، والاعتقال، بعد أن يبلغ سدّة الحكم. كما أنّ حزب العمّال لا يقبل بالجلوس إلى طاولة حوارٍ وتنسيقٍ مع حركة النهضة والحزب الدستوري الحر، ويعتبرهما رجعيين، مسؤولين عن تعثّر مسار الانتقال الديمقراطي بعد الثورة. وبذلك يفتّ هاجس الإقصاء المتبادل من عضد الطيف المعارض، ويقلّل من حظوظه في إطاحة منظومة قيس سعيّد على الأقلّ في المدى القريب.

ختاما، لكي يكون فعل المعارضة تغييريا، سلميا، بنّاءً وناجعا، أحْرى بالأحزاب المعارضة خلال هذه المرحلة الدّقيقة من تاريخ تونس، التّفكير في مصلحة المجموعة الوطنيّة بدل التمترس خلف المسلّمات الأيديولوجيّة والاعتبارات الحزبيّة، الضيّقة، وبلورة مراجعة نقدية لمنجزها السياسي طوال عشرية الانتقال الديمقراطي وزمن حكم الاستثناء، والعمل على الانتقال من طور التشتت إلى طور الوحدة، ومن التنافي إلى التلاقي من أجل تشكيل كتلة ضغط، تاريخية، وازنة، قادرة على مواجهة النظام القائم، وتجميع أكبر طيف من التونسيين تحت راية التمسك بمكتسبات الثورة ومشروع الدولة الديمقراطية المدنية. وإن لم تفعل، فإنّ مشروع إحياء الدولة الشمولية/ الأحادية باقٍ ويتمدّد.

511AC165-C038-4A2F-8C46-0930BBB64EBE
أنور الجمعاوي

أستاذ وباحث جامعي تونسي، فاز بالجائزة العربيّة للعلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة لتشجيع البحث العلمي (فئة الشباب) من المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. له عدة أبحاث وكتب.