كيف يتفاعلُ الأدبُ مع الصحافة؟
تحت شعار "الأدب أفقاً للتفكير"... يتساءلُ عنوانُ ندوتي في معرضِ الكتاب الدولي في الرباط: كيف يتفاعل الأدب مع الصحافة وكيف يتبادلان الأدوار؟ انطلاقاً من هذا السؤال الكبير تأتي الأسئلةُ الفرعية التي اقترحها منظمّو الندوة في بقيةِ الدعوة: "كيف يساهم الأدباء في الرفعِ من سويةِ الكتابة الصحافية؟ وكيف يستفيدون منها لتطوير مهاراتهم كأدباء، سواء كانوا كتّاب قصةٍ ورواية أم حتى شعراء؟ ثم كيف ينظر الأدباءُ إلى استسهالِ الكتابة الصحافية في زمنِ الصحافة المواطنة والكتابة المتاحة للجميع على المواقع الإعلامية والإخبارية الإلكترونية؟ وهل ما زال هناك مجال للأدباء لأن يحقّقوا التميّز الذي حققته الأجيال السابقة عبر الصحافة في المستقبل؟ أم إنّ الأديب بلغته الراقية صار محكوماً عليه بالانزواء داخل عمله الأدبي بعيداً عن عمومِ القرّاء الإلكترونيين الذين يملؤون الفضاء الأزرق؟".
ومثل هذه الأسئلة حاضرة دائماً في أذهانِ معظمِ الشعراء والروائيين والقصّاصين وغيرهم من الكتّاب المبدعين المشتغلين في مهنةِ الصحافة، وغالباً ما تقلقهم، خاصة وهم يرون العمل الصحافي وما يتطلبه من سرعةٍ في النشر، وزخمٍ في الأفكار، وشبكةِ علاقاتٍ واسعة مع الفضاء الثقافي عموماً، يلتهمُ معظمَ الوقت ولا يترك للأديب سوى الفتات مما يجعله دائماً على محكِّ الاختيار تحت الضغط اليومي.
ولذلك غالباً ما تبدو معظم تجارب العاملين في هذا الحقل الإبداعية سريعةً وخاضعةً للتحريرِ اليومي المستمر بما يُناسب طبيعة العمل وإرهاقه النوعي. وهذه الطبيعة تجعل مبدعين صحافيين كثيرين حريصين على البقاء في دائرةِ إبداعهم الخاصة والحميمة جدّاً، منغمسين بذواتهم الكاتبة في سبيلِ الهروبِ من فكرةِ السرعة التي تلاحقهم بالفعل، وهو ما جعل هؤلاء تحديداً قليلي النشر في الغالب رغم أنّهم يكتبون كثيراً، وبشكلٍ يومي. خاصة أنّهم يرون جميع من يتواصل معهم من الأدباء شديدي الحرص على النشرِ الورقي أحياناً، حتى قبل اختمارِ التجارب الكتابية ووصولها إلى مرحلةِ النضج، اعتماداً على وجودِ محرّر أدبي يعملُ في الصحافةِ، سيسدّ الثغرات ويصحّح الأخطاء ويدقّق النصوص ويحرّر الكلمات... وبالتالي فهم يتعاملون مع منطقةِ راحةٍ لا يملكها المحرّرون أنفسهم، إنْ كانوا مثلهم من المبدعين. وهو ما يفسّر جودة تقنية خاصة تتميّز بها أعمال المبدعين العاملين في الصحافةِ بعد النشر، فعمله اليومي (المبدع العامل في الصحافة) الدؤوب بين نصوصِ الآخرين ومحاولةِ تجويدها تدوينياً على الأقل، تسهم دائماً في تطويرِ مهاراته الأولية في الكتابةِ، وتجويدها، وتحسينِ صورتها النهائية. يحدث هذا مع الروائي، ومع القاص، ومع الشاعر أيضاً، وهو لا يتعارض مع فكرةِ فطرية الكتابة، وعفويتها، وفكرة أنّها تنطلق أساساً من موهبةٍ دفينةٍ في ذات المرء!
وهروب المبدع الصحافي من فكرةِ النشر، أو ربّما تَوانيه عنها، له أسباب أخرى، أهمها فكرة الزهد بعمليةِ النشرِ نفسها، وهو يعيش في مطبخه الصحافي، مفككاً عناصر السحر وخصوصيته في ذهنِ المبدع وذهن القارئ أيضاً.
وأتى النشر الإلكتروني في العقدين الأخيرين ليعزّز هذه الفكرة ويرسّخها، ليس لدى المبدع العامل في الصحافة وحسب، ولكن أيضاً لدى كثيرين غيرهم بعد أن عايشوا إمكانيةِ النشر السريع جداً بمعزلٍ عن آراءِ الآخرين وقدراتهم على التدخّل والتحكّم بالنشرِ نفسه، ثمّ بشكلة، وطبيعته، وتوقيته، كما كان وما زال يحدث في النشرِ الورقي أو النشر المسؤول ضمن سياقِ مؤسّسات صحفية لها كيانها الاعتباري ومعاييرها الخاصة في النشر.
أسئلة أخرى انبثقت من أسئلةِ الندوة وشجعتْ على مزيدِ من التفكيرِ بأهميةِ البحث عن إجاباتٍ تسهم بإنقاذِ الموهبة الإبداعية، وخصوصاً لدى الشباب الباحث عن وصولٍ سريعٍ وآمنٍ إلى المتلقي بعيداً عن مخاطر الاستسلام لطبيعة النشر الذاتي في وسائل التواصل الاجتماعي ومغرياتها السهلة، وما توّفره للكاتب، مبدعاً أم غير مبدع، من "فرص" كثيرةٍ قد تنقذه أحياناً، ولكنها غالباً ما تدسّ سُمَّ الرفاهية الإبداعية في عسل النشر الاستهلاكي السريع... للأسف!