كرسي الأقزام

كرسي الأقزام

23 يوليو 2023
+ الخط -

قريبًا سيحظى "غينيس" برقم جديد، عربيّ خالص هذه المرّة، قوامه كرسيّ بطول سبعة أمتار، وبعرض ثلاثة أمتار، صنع في الأردن، ونصب على أوتوستراد عريض بين عمّان والزرقاء، ليكون معلماً جديداً، صالحاً للسياحة، و"الفرجة"، وربما للجلوس عليه لمن استطاع إليه سبيلا.

أما السخرية التي قوبل بها هذا الكرسيّ العملاق، وحفلت بها مواقع التواصل الاجتماعيّ فمردودة على أصحابها؛ وكذا التساؤلات عن الفائدة المرجوّة من اختراعاتٍ على هذا الغرار؛ ذلك أن من تساءلوا وسخروا إمّا أن يكونوا على جهلٍ مطبقٍ بالعقل العربي وخصائصه، أو لأنهم لا يقدرون على محاكاة اختراعاتٍ "مذهلة" كهذه، وذلك دأب العاجزين.

أرجّح السبب الأول، غير أنني أستغرب كيف يسخر هؤلاء من رمزٍ عظيم كهذا؟ هل يجهلون، حقّاً، علاقة العربيّ بالكرسيّ؟ ألا يعرفون أنها بلغت حدّ اختلاط العظم بالخشب، وغدا الكرسيّ مغناة في أحايين كثيرة، أم أنهم لم يستمعوا إلى الأغنية الأردنية التي وصفت العلاقة بدقّة في مطلعها "حنّا كراسي البلد".

هذه الأغنية، تحديدًا، تفسّر فضاء العلاقة بين العربيّ والكرسيّ، لأنها تطمس الحدّ الفاصل بين "الجالس" و"المجلوس عليه"، وتجعل منهما كياناً واحدًا؛ لا يمكن التفريق بينهما. والأهمّ أنه لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، تمامًا على غرار رسم كاريكاتوريّ قديم يُظهر جنرالاً عربيّا على هيئة كرسيّ في وضعية جلوس، يداه وقدماه هي أرجل الكرسي الأربع، وظهره مسند الكرسيّ. وفي ذلك دلالة عميقة على تشبّث الجنرال بالكرسيّ، وبأنه على الأغلب لا ينهض عنه، ويمارس مهامّه كلها عليه، وربما ينام فوقه أيضًا. ومع جلوسٍه المزمن تلاصق اللحم بالخشب، تمامًا كما يلتصق الكفن بعظام الميّت. ومن يدري، يُنبئ الرسم إياه عن أنّ هذا الجنرال أوصى بدفنه مع كرسيّه بعد موته.

وللإنصاف، أيضاً، لم تحصر الأغنية إياها الكرسيّ بالجنرالات والحكّام والمسؤولين، بل جاءت شاملة واضحة، تتحدّث بلسان الجميع، عن التوق الجمعيّ للكرسيّ؛ لأنها بدأت بـ"حِنّا" (نحن). ولا يغرب عن البال مبلغ عشق العربيّ للكرسيّ، حتى ولو كان كرسيّ "القش" في المقاهي القديمة، ولكلّ كرسيه الذي يأمل أن يكون "عاليًا"، ولا يُغادره إلا إلى كرسيّ أعلى، فذلك غاية المنى، لأنّ حيّز الكرسيّ يتسع مع أهميته، فيستطيل بامتيازاته واتّساع ظله، ولا يهمّ الثمن المدفوع لقاءه، فبعض النواب الأردنيين يُغدقون ملايين الدنانير ليحظوا بكرسيّ النيابة الذي لا يتعدّى راتبه الشهري بضعة آلاف، فالمهمّ هنا "الوجاهة" و"المخترة" ونمرة السيارة الحمراء. وما إن يحصلوا عليه حتى ترنو أعينهم إلى كراسي الوزارة، والمناصب الرسمية، ما يعني أن مراميهم ومقاصدهم الخفيّة لا تستهدفان خدمة الشعب، بل إبراز أهميتهم في أعين السلطة، التي تستميلهم بالمناصب، وعندها يطلّقون قواعدهم الشعبية، ويرمحون صوب الكرسيّ الأعلى.

عمومًا، ولمزيد من تفنيد ذرائع الساخرين، حريٌّ بنا أن نلتمس عذرًا آخر للصانع، فلربما كان قصده من الاختراع أن يرمز إلى "الكرسيّ الجامعي"، ذلك الذي يُطلق لتكريم شخصيات مؤثرة، كالعلماء والأدباء وغيرهما، أو ربما أراد أن ينبّهنا على جامعاتنا العربية التي تتذيّل، على الدوام، قوائم الجامعات الأهمّ في العالم، أيّ أن الهدف أكاديميّ بحت، والمطلوب أن نعالج هذا النقص كلما نظرنا إلى الكرسيّ العتيد.

شخصيًّا، استهواني هذا الكرسيّ وفكرته، ولا أدري، عندما شاهدته، كيف شعرت بأنني أنظر إلى "غوليفر" في بلاد الأقزام، فاستبدّ بي خاطرٌ ما أحسست معه أن الصانع نفسه هو من يسخر منّا بهذا الاختراع. أعني أنه جاء بكرسيّ أطول من قاماتنا نبدو أمامه كالأقزام، على الرغم من أننا نحن من جعلناه عملاقًا في خيالاتنا، وبأيدينا ... جعله على مرأى من عيوننا ليذكّرنا بأنه لن تقوم لنا قائمة إلا إذا أصبح الكرسيّ قزمًا، ونحن العمالقة.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.