في مذكّرات سليمان النابلسي

في مذكّرات سليمان النابلسي

06 اغسطس 2023
+ الخط -

من قاد انقلابًا على الآخر، سليمان النابلسي على الملك حسين، أم الملك على النابلسي؟ هذا السؤال هو المحور الخفيّ في مذكرات رئيس الوزراء الأردني الأسبق، سليمان النابلسي، التي تصدر قريبًا عن المؤسّسة العربية للدراسات والنشر (بيروت)، والتي سجّل أحداثها شفاهة المؤرّخ علي محافظة، في لقاءات عدّة جمعته بالراحل، وآثر أن يصدرها الآن، ربما لأنّ نتائج الحقبة التي دارت فيها أحداث المذكّرات شكّلت معظم التوجهات والسياسات الأردنية.

عمومًا، المذكّرات على جانب كبير من الأهمية، وتحفل بمعلومات ومفارقات أزعم أنّ كلّ واحدة منها تحتاج وقفات مطوّلة، وربما تغيّر كثيرًا من البدهيّات السائدة في التفكير الجمعي. ولا يسعني هنا غير التوقف عند إلماعات سريعة لتشكيل صورة ذهنيّة أوليّة عن تلك الحقبة من تاريخ الأردن.

المفارقة الأولى أنّ أحداث المذكرات تدور بين راحلين، صاحب المذكّرات نفسه، والشخصيات التي ترد فيها، فحقّ الاحتجاج والردّ لم يعد قائمًا من أشخاص طاولتهم سهام النقد، وليس من فيصلٍ بين الراوي والمرويّ عنهم غير قضاء الآخرة، ذلك أنّ حوادث السيرة يدور معظمها في حقبة مبكّرة من القرن المنصرم، زمن المؤسّس الأول للمملكة الأردنية الهاشمية، الملك عبد الله بن الحسين، ثم حفيده الملك حسين بن طلال، مع تركيز أزيد على عهد الثاني، الذي شهد تحوّلات دراميّة، مع صعود المدّ القوميّ الذي كان الراوي من أنصاره.

والمفارقة الأخرى، أنّ المذكّرات تقوّض كلّ الاتهامات التي لحقت بسليمان النابلسي، أنّه كان يخطّط للانقلاب على الملكيّة، بدليل أنه كان مقرّبًا للملك المؤسّس، وموضع ثقة لديه، يلازم مجالسه، ويأخذ بمشورته غالبًا، وكذلك الأمر للملك حسين في مطلع عهده، وتجلّى ذلك عندما عهد إليه بتشكيل الوزارة سنة 1956، بل إنّ النابلسي نفسه يقرّ بأنه كان مخلصًا للملكيْن، وفيًّا لهما، ومدافعًا عنهما وعن شرعية نظامهما، ولم يفكّر لحظة في الانقلاب على العرش الهاشمي، حتّى في أوج المدّ القومي زمن جمال عبد الناصر، والبعثي في سورية والعراق. مع التذكير بأننا هنا نتحدّث عن رواية من طرف واحد، هو النابلسي، ولا يصحّ الحكم من دون الاستماع إلى رواية الطرف الثاني، التي يحسُن العودة إليها في كتاب الحسين "حياتي كملك".

تتعلق المفارقة الثالثة بلحظة الافتراق بين الملك حسين والنابلسي، التي سبقتها ومهّدت لها سلسلة أحداث لعب فيها سياسيون وعسكريون أدوارًا مؤثرة، وتحتاج إلى تمعّن كثير لتحليلها وفهمها، ومدى تأثيرها في القرارات التالية للملك، وأهمّها إقالة حكومة النابلسي وإعلان الأحكام العرفية، وحظر الأحزاب، ومن ثم ملاحقة الحزبيين والمعارضين وزجّهم في السجون. ولعلّ السؤال الممضّ هنا: كيف حدث ذلك، ولماذا تحوّل الأردن من بلدٍ كان يعِد بتحوّل جذري إلى النهج الديمقراطي إلى بلد بحكم فرديّ مطلق؟ وهنا لا يمكن القطع مع شخصية الملك حسين نفسها، التي كانت حافلة بالمشاعر الرومانسيّة حيال القومية، والوحدة العربية، وهو ما يؤكّده الملك نفسه في مذكّراته عندما كان طالبًا في كلية فكتوريا في القاهرة، وكيف كانت تخلبه خطب الزعيم جمال عبد الناصر، وعندما تولّى مقاليد الحكم سعى ما أمكنه للسير على نهجه.. فكيف انقلب الملك على أفكاره تلك؟

يعزو النابلسي السبب إلى فتن ومؤامرات، سيما من سياسيين طامحين إلى تحويل الأردن إلى بلد "ثوريّ" لا تستقيم معه الأنظمة الملكية، وكذلك من شخصيات داخل القصر أو من المقرّبين إليه، فضلًا عن مؤامرات حاكتها السفارة الأميركية، التي كانت تتطلّع إلى تطبيق مشروع إيزنهاور الذي يهدف إلى ملء أميركا الفراغ الاستعماري البريطاني، الذي كان الأردن من ضحاياه.

وفي المحصّلة، انقلب الأردن على ديمقراطيته الوليدة، وآثر الملك حسين أن يعتمد على العشيرة بدل الحزبية. وفي ذلك، يصف النابلسي كيف وجد القصر مكتظًّا بزعماء العشائر عندما دعاه الملك إلى اجتماع عاجل في أواخر عهد حكومته، فتنبّأ منذ ذلك الحين بأنّ الانقلاب الملكيّ على الديمقراطية قادمٌ لا محالة. وفي النتيجة عاد الأردن إلى عشائريته الأولى زمن الملك المؤسس، فيما استبدل التبعية البريطانية بالتبعية الأميركية، وهو ما توقّعه النابلسي في مذكراته قبيل إطاحته... وتلك هي المفارقة الأهمّ التي لا تزال نتائجها ماثلة.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.