عن تحوّلات الليبرالية في مصر

12 مايو 2024
+ الخط -

شهد الفضاء المصري، في الأيّام الماضية، جدلاً واسعاً على خلفيّة انطلاق المؤتمر السنوي الأوّل لمؤسّسة فكريّة وليدة، في المتحف المصري الكبير، تحت عنوان "خمسون عاماً على رحيل طه حسين: أين نحن من التجديد اليوم؟"، وكان الملمح اللافت الحضور الكبير لبعض المُثقّفين المُتمسّحين بالليبراليّة، المحسوبين على "التنويرييّن" إيّاهم، من ذوي التوجهات والمواقف "التنويريّة" المُتطرّفة المثيرة للجدل في السنوات الأخيرة.
على إثر ذيوع خبر تدشين المؤسسّة "التنويريّة" الوليدة، انطلقت في الفضاء الافتراضي حملة هادرة شعواء، هاجمت بضراوة القائمين على المؤسسّة، وطعنت في أهداف الجهات المموّلة لها، مُطالبة بإغلاقها ومنع نشاطها، باعتبارها تتبنّى توجّهات فكريّة تتصادم مع الثوابت الدينيّة للمجتمع، ومن جانبهم، ردّ القائمون على المؤسسّة بأنّها "تعمل على تطوير خطاب التسامح، وفتح آفاق الحوار والتحفيز على المراجعة النقديّة، وإعادة النظر في الثغرات التي حالت دون تحقيق المشروع النهضوي الذي انطلق منذ قرنيْن"، وكان لافتاً الغياب التامّ للجرائم الإسرائيليّة المتواصلة في غزّة عن أعمال المؤتمر التأسيسي للمؤسّسة.
بدايةً، يتعيّن القول إنّ الثوابت الدينيّة والأخلاقيّة للمجتمع، راسخة رسوخ الجبال الرواسي، ومتغلغلة في ثنايا النسيج الاجتماعي والثقافي، ومتجذّرة في عمق التربة الحضاريّة المُجتمعيّة، وليست من الهشاشة التي تجعلها قابلة للخدش، فضلاً عن الكسر، ولا يمكن لكلّ المؤسّسات "التنويريّة" مُجتمعة أن تنال منها أو تهزّها، فما بالنا بمؤسسّة وليدة، يقوم عليها بضعة من "التنويرييّن"، الذين يدلّ خطابهم على أنّهم مصابون بتضخّم الذّات "التنويريّة"، من الذين يعيشون في أبراج عاج، وعوالم مخمليّة، في حالة انفصال وجداني عن عموم النّاس، لأنّ المجتمع هو الذي يختار ثوابته، وهو الذي يدافع عنها، ودعوات الإغلاق والملاحقات تمنح أهميّة لمن لا يستحقّها، وتصنع من الأقزام أبطالاً من دون أيّ مبرّر.

الثوابت الدينيّة والأخلاقيّة للمجتمع، راسخة ومتغلغلة في ثنايا النسيج الاجتماعي والثقافي، وليست من الهشاشة التي تجعلها قابلة للخدش

أمّا المفارقة الطريفة، والنقطة التي تستحقّ الالتفات، أنّ الشهر الماضي شهد حلول الذكرى السبعين لحدث تاريخي بالغ الأهميّة، مثّل نقطة مفصليّة في تاريخ مصر الحديث، ألا وهو أزمة مارس (1954)، وقد يبدو للوهلة الأولى أنّ لا صلة بين ذكرى أزمة مارس وبين انطلاق المؤسسة "التنويريّة" الجديدة، لكن الصلة خفيّة وثيقة، تكمن في التحوّلات التي مرّ بها التيّار الليبرالي في مصر خلال العقود الماضية.
يتعيّن القول في البداية، إنّ التيّار الليبرالي، هو الذي حمل لواء المطالبة بالديمقراطيّة والحياة الدستوريّة والنيابيّة في مصر، وإن التيّار الليبرالي في مصر منذ ظهوره لم يكن يوماً كتلة مُصمتة، وإنّما ظهر بأطياف ودرجات شتّى، وسجّلت أطيافه مواقفَ متباينة إلى حدّ التناقض من القضايا الوطنيّة والدينيّة، بيْد أنّ معيار التقييم يكون بالطيف أو الفريق الذي ساد ولقي قبولاً ورواجاً جماهيريّاً، واحتلّ متن المشهد أو حقّق إنجازاً سياسيّاً أو فكريّاً يستحقّ التوقّف، لاستبيان أسباب انتشاره ونجاحه، في مقابل محاولة رصد أسباب انحسار وإخفاق الفريق الآخر، الذي انزوى وظلّ على الهامش.
عرف الفضاء المصري في مطلع القرن العشرين الليبراليّة السياسيّة، والليبراليّة الفكريّة، كما عرف الليبراليّة الأوتوقراطيّة، والليبراليّة الوطنيّة، وقد قامت ثورة 1919 على أكتاف التيّار الليبرالي المصري بمدلوله الوطني، ثمّ تبلورت قيادة للثورة، وظهر حزب الوفد بقيادة الزعيم الوطني العظيم سعد زغلول باشا، ليكون بمثابة رأس حربة الحركة الوطنيّة المصريّة، مطالباً بالديمقراطيّة والاستقلال في مواجهة الاستبداد والاحتلال.
قدّم الوفد نفسه ممثّلاً الأمّة المصريّة، بكلّ فئاتها وطبقاتها، حاملاً طرحاً فكريّاً رصيناً، وأيديولوجيّة ليبراليّة مُتوازنة معتدلة جرى تمصيرها، إن جاز التعبير، فقد قامت ليبراليّة الوفد على احترام الهويّة الحضاريّة، والتصالح معها، وأولويّة تحرير الوطن، ولم يثبت عن الوفد على الإطلاق (في نسختيْه مع سعد زغلول ومصطفى النحّاس) انجرافه لخوض معارك مُفتعلَة زائفة جوفاء، تحت شعار التنوير أو تحرير العقل أو ما شابه، من شأنها أن تشغله عن هدفه في تحقيق الديمقراطيّة والاستقلال، من دون فصل بينهما.
مثّلت الحقبة الليبراليّة (1922 - 1952) العصر الذهبي للحرية الفكريّة، والكلمة المكتوبة في مصر، فقد عرف الفضاء الثقافي المصري كتابات مُفكّرين عديدين من أساطين الليبراليّة، الذين مثّلت كتاباتهم الزاد والعتاد الأساسي للقوى الناعمة المصريّة حتّى يومنا هذا. كتابات كلّ هؤلاء الكبار، على التمايزات والمسافات الفاصلة بينهم، لم تسعَ مطلقاً للصدام بأيّ صورة مع الهويّة الحضاريّة للمجتمع، ولم تجنح مطلقاً إلى "هتك المُقدّس" تحت شعار "التنوير"، ولم تتبنَ فكرة القطيعة المعرفيّة الكاملة مع التراث، بل أجمعت كتاباتهم تقريباً، على احترام الدّين وحضوره في المجتمع، واحترام التراث بدرجة أو بأخرى. الكتابات الليبراليّة في تلك الفترة، كانت تتحدّث عن الدّين الذي يدعم المواجهة مع الغرب المُتقدّم، والذي يُمثّل زاداً حضاريّاً وروحيّاً لا غنى عنه في رحلة السير إلى التقدّم الحضاري، فقد كانت ليبراليّتهم ليبراليّة وطنيّة متصالحة مع الدّين إلى حدٍّ بعيدٍ، لكنّها لم تسقط في وهدة "الأَسْلَمَة" أو إعادة اكتشاف الهويّة الحضاريّة، على غرار ما جنحت إليه جماعات الإسلام الحركي.
من جهة أخرى، شهدت تلك الحقبة معارك فكريّة ضارية من شتّى الاتجاهات، سجّلتها الصحف الدوريّة، والحقيقة أنّها اتسمت بجزالة خطابها الفكري ولغتها الراقية، وذكر فتحي غانم في كتابه "معركة بين الدولة والمُثقّفين" (الكتاب الشهري لـ"أخبار اليوم"، القاهرة، سبتمبر 1995) أنّ النشاط الصحافي في مصر، في سبتمبر 1951، وصل إلى مرحلة غير عاديّة، فقد كان قرّاء القاهرة يستقبلون كلّ يوم 21 صحيفة، ويختارون كلّ أسبوع بين 121 مجلّة أسبوعيّة، إلى جانب 172 مجلّة شهريّة أو نصف شهريّة.

لم يعد على المسرح في تلك الفترة إلا دولة 23 يوليو (1952) ممثّلة في أجهزتها الأمنيّة، وفي تنظيماتها الدولتيّة من جهة، وتنظيم الإخوان المسلمين من جهة أخرى، في ثنائيّة صراعيّة ممتدّة


بعد الانقلاب العسكري في 23 يوليو/تموز 1952، توالت الأحداث حتّى وصلت إلى أزمة مارس (1954)، التي كانت بمثابة "معركة الليبراليّة الأخيرة"، وانتهت بـ"سقوط الليبراليّة في مصر"، على حدّ وصف عبد العظيم رمضان، بعدما تحالف العساكر مع الإخوان المسلمين في مواجهة القوى الليبراليّة المطالبة بالديمقراطيّة، وعودة الجيش إلى ثكناته، بعدما عقدوا صفقة معهم تضمنّت الإفراج عن قيادات الجماعة مقابل صمتهم، حتّى إنّ مرشد الجماعة حسن الهضيبي، خطب في 30 مارس/آذار 1954 مهاجماً الأحزاب والمطالبة بعودتها، واصفاً عملها بأنّه كان لـ"وجه الشيطان"، في مشهد سريالي مُفعَم بالغرابة والعجب، وكان ذلك الموقف السلبي من الجماعة، يساوي تماماً تسديد الحِراب إلى صدر الحياة الليبراليّة في مصر، وفق تعبير رمضان. وانتهت المعركة بالإجهاز على الليبراليّة الوطنيّة، بشقّيْها السياسي والفكري، وهنا سجّل فتحي غانم آثار المعركة قائلاً: "في إبريل 1954 انشغل المُثقّفون بضربات متلاحقة.. حلّ مجلس نقابة المحامين.. أحكام بالسجن 10 و15 عاماً على محمود أبو الفتح وأحمد أبو الفتح، صاحبَي وكاتبَي صحيفة (المصري)، وسحب رخصة إصدارها، وقد صدر آخر عدد من الصحيفة يوم 4 مايو 1954، وبعد أيّام صدر يوم 26 مايو القرار النهائي بإلغاء أيّة صحيفة حزبيّة، وهي في مجموعها 42 صحيفة ومجلّة، غير صحافة الشيوعيين التي توقّفت من قبل، فلّما جاء شهر سبتمبر بدأت الحملة ضدّ الجامعة وطُرٍدَ 450 أستاذاً ومُدرّساً".
وهكذا، فقد دكّ نظام 23 يوليو العسكريتاري بسنابكه الغليظة، كلّ جوانب الفضاء المصري، هادماً كلّ البنى السياسيّة، والمجتمعيّة القديمة، من أحزابٍ، ونقاباتٍ، وجمعيّاتٍ، ساحقاً كلّ ما بنته الحركة الوطنيّة المصريّة طيلة قرن ونصف قرن من الزمان، ولأنّ الليبراليّة بطبيعتها لا تعرف العمل "السرّي"، فلم يعد على المسرح في تلك الفترة إلا دولة 23 يوليو (1952) ممثّلة في أجهزتها الأمنيّة، وفي تنظيماتها الدولتيّة من جهة، وتنظيم الإخوان المسلمين من جهة أخرى، في ثنائيّة صراعيّة ممتدّة، وحدث انقطاع جيلي وفكري كبير في مسيرة الليبراليّة الوطنيّة، حتّى جاءت السبعينيّات.. وهو أمر يستحقّ حديثاً آخرَ.