حوار المنقولات الزوجية في مصر

حوار المنقولات الزوجية في مصر

31 يوليو 2022

جِمال تتجه نحو منزل عريس في القاهرة (1890/Getty)

+ الخط -

تفجّر في مصر، أخيرا، موضوع حيوي باعتباره "تريند"، لم يأخذ حقه من النقاش الطبيعي بمحاوره الاقتصادية والاجتماعية المختلفة، وهو موضوع قائمة المنقولات الزوجية، والذي تسعى الحكومة المصرية إلى إلزام المأذونين بكتابتها وتوثيقها، وقائمة المنقولات هذه عادة مصرية مختلف على نشأتها وتفاصيلها، إذ يرى بعضهم أنها تشمل كل محتويات مسكن الزوجية، ويضيف إليها آخرون المشغولات الذهبية التي تهدى للعروس بينما يرى آخرون أنها لا تشمل سوى ما تقوم الزوجة وأهلها بإحضاره وتجهيزه، ويحاول بعضهم تحويلها إلى جزء من الدين والشريعة، تارّة يقولون إنها هي المهر وتارات يقولون إنها جزء منه والجزء الآخر هو الذهب، بينما كان مهر بنات الرسول صلى الله عليه وسلم وكبار الصحابة دراهم من الفضة. وبذلك نحوّل كل هذه المبالغات في العادات المصرية إلى جزء من الدين والعقيدة، ونريد تقنينها وتحويلها إلزاما، بينما الزواج نفسه غير مجمعٍ على فرضيته وإلزاميته.

أصل الموضوع هنا تقدّم إحدى النائبات باقتراح لتعديل لائحة المأذونين، وأن تكون قائمة المنقولات الزوجية الموثقة بمحضر توثيق وتصديق في الشهر العقاري المختص ضمن الأوراق الإلزامية لتوثيق عقد الزواج، لكن الموضوع جرى تناوله بشكل شديد التسطيح على مواقع التواصل الاجتماعي على أهميته، في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية الحالية التي يتزايد فيها الفقر، ويتزايد معه، بالتوازي، الطلاق وكذلك العزوف عن الزواج.

جاء هذا التسطيح تارّة من الفتيات والأهالي المعارضين فكرة إلغاء القائمة، ومن يشتريها، وكأن المطروح هو إلغاؤها وليس تقنينها. ومن هنا جاء التسفيه على صورة كوميك لسيدة "تحوّش" المال لتجهيز ابنها وليس ابنتها أو حول الشباب وتفضيلاتهم في تأثيث البيت بطقم واحد مكوّن من زوجين من الأشياء، سواء كوبين أو طبقين، بدلا من عشرات الأطقم التي تتفنن الفتيات والأمهات في تعديدها وتفريدها في إطار الفقر والعنطزة، أو مظاهر الفخر الكاذبة التي تحيط بعادات العرس، والتي تكاد تكون بدعة مصرية خالصة.

مجتمع تجري فيه أغلب حالات الطلاق في السنوات الأولى، وتعاني فيه الغالبية من فقر رغم العمل

دخلت بعض التسطيحات لوصف رافضي القائمة بأنهم "أنطاع"، ويريدون الهروب من الإنفاق، مع أنه معروفٌ أنه باستثناء فئة المرأة المعيلة، فإن الرجل المصري، كان أبا أو أخا أو عما، يتكفلون بتجهيز ما تحتاجه الفتاة وفقا للمتفق عليه، أي أن الذي يجهز نفسه ويجهز أخته أو ابنته هو الرجل، وبالتالي لا معنى هنا للاتهامات النسوية. معروفٌ لدى المصريين أن الملايين المهاجرين في الخليج يفنون السنوات الخمس الأولى على الأقل لتجهيز بيوتهم أو بيوت أخواتهم أو بناتهم، وهذا لا ينفي تحمّل الأمهات هموما كالجبال لتجهيز بناتهن، سواء من مال أبيها أو أخيها أو ما تحوّشه من مصروفها لإعانة الأسرة على التجهيز التام وفقا لهذه المبالغات، فهل هؤلاء أنطاع؟

فيما دخل بعض الشباب والفتيات العرب في القصة من دون فهم أصل الموضوع أحيانا كثيرة، فمنهم من دخل ليقول إن الفتاة تأتي بـ"شنطة هدومها" فقط، وإن الشباب يجهزون منزل الزوجية، وهو مبدأ غير مرفوض لدى جمهور الشباب في مصر، لكن المرفوض قطعا أن يوقع الشاب على نفسه قائمة بمنقولات هي بمثابة شيك على بياض، أو وصل أمانة يحرّره على نفسه بقيمة يحدّدها غالبا أهل العروسة بمبالغاتٍ لا يعلمها إلا الله، في أحيانٍ كثيرة، حتى أنها حاليا تبدأ من 250 ألف جنيه، وتصل إلى أكثر من مليون جنيه مصري في عديد من قرى الدلتا والصعيد.

والأسئلة هنا لهؤلاء الذين لم يعيشوا معاناة المائة مليون مصري ومصرية: هل هناك رجل في تاريخ الشام أو العرب أو المسلمين من خارج مصر يقبل على نفسه أن يوقّع قائمة بمبلغ أو بتفاصيل كل ما في منزل الزوجية، وعند الطلاق هو ملزم بتسليمها كاملة للزوجة أو بالمبلغ المكتوب بقيمتها أو بالحبس؟ وهل يتكلّف الزواج عندهم أكثر من مصر، رغم أنها ضمن أدنى الدول العربية في مستويات الدخول؟ كم عاما على الشاب المصري أن يحوّش راتبه لسداد تكاليف الزواج مقابل كم عاما في دولكم؟ وكم عاما أخرى ليسدّد ثمن هذه القوائم حال الطلاق؟

تحوّلت منظومة الزواج في مصر منذ الانفتاح إلى ما يشبه سوق النخاسة

عقودا، تحوّلت منظومة الزواج في مصر منذ الانفتاح إلى ما يشبه سوق النخاسة، حتى تقول إحدى أشهر النكات السخيفة المتداولة من فتاة إن والدها يطلب فيها مائة مليون، بينما أمها تطلب مائة مليون، ليرد المتابعون بأنهم سيشترونها من الأب ويبيعونها للأم، وتضع فتيات مختلفات صورها محل صور تلك الفتاة، كما ينتشر على بعض الصفحات على نطاق واسع أن إحدى الأسر تقول إن ابنتهم طبيبة وطولها 170 سم وجميلة، فكم يطلبون فيها مهرا ومؤخرا وقائمة؟ وبرغم هزلية السؤال، وأنه يبدو من "الكوميكس"، إلا أن هذا، مع الأسف، يحدُث في الواقع عند كل حالة زواج، بل وأحيانا كثيرة يجري فسخ الزواجات في اللحظات النهائية، لأن العريس وأهله لم يوافقوا على إضافة بند جديد للقائمة أو على مبلغ معين فيها.

وبينما يصرخ الشباب والفتيات الذين تبقى لديهم عقل لإلغاء هذه القائمة، وتيسير الزواج والتوافق على منظومة زواج بالتزامات وحقوق متكافئة، تقوم على المودّة والرحمة والفضل والإحسان والبعد عن تلك المبالغات في تكاليف الزواج وتفاصيله غير موجودة سوى في مصر تقريبا، حيث يتفاخر أهل العروس بعدد أطقم الحلل والمواعين والفرش، ويزايدون على بعضهم بعضا بكم سيارة نقل شاركت في نقل أشياء عروسهم، وكم غراما من الذهب قد جيء به، يأتي هذا الجدل الشعبوي السطحي، ليقرّ هذا الركام من التخلف والمبالغات بدعوى تمكين المرأة، بينما هو ببساطة سيقود إلى مزيد من العزوف عن الزواج بهذه الشروط المجحفة، وبمزيد من السجينات الغارمات فقط للوفاء باشتراطات المجتمع المبالغ فيها لتجهيز ابنتها بالديون، سواء من الجمعيات أو الأهالي في هذا المجتمع الفقير المبالغ فيه، ومزيد من الصراع الذي لا طاقة للمرأة ولا للرجل به، وتتحوّل المسألة إلى صراع صفري.

الكارثة الكبرى هي إدخال الجميع في معركة وتحويل الزواج إلى حرب في مجتمع غالبيته فقراء أو على حافّة الفقر

أين المنطق في مجتمع تجري فيه أغلب حالات الطلاق في السنوات الأولى، وتعاني فيه الغالبية من فقر رغم العمل، فمن يستطيع أن يدفع كل هذه المبالغ الطائلة لكي يجري الطلاق بسلاسة؟ ولصالح من تتم هذه القوانين؟ ومن يموّل منظومة الزواج المبالغ فيها تلك في مجتمعٍ، معدّلات بطالة الشباب وفقر الشباب العاملين فيه ضمن العليا عالميا؟

الكارثة الكبرى هي إدخال الجميع في معركة وتحويل الزواج إلى حرب وصراع في مجتمع غالبيته فقراء أو على حافّة الفقر وفقا للمؤسسات المالية الدولية، من حكومة ونخب ترى الكارثة الكبرى في السكان الذين يلتهمون النمو الوهمي، وليس في عدم وجود تنمية حقيقية تستوعب الجميع، وتدفعهم إلى تكوين الأسر التي هي الوحدات الاقتصادية الأساسية في مختلف نظريات الاقتصاد الحديث، سواء للانتاج أو الاستهلاك. الاستهداف الحقيقي هنا تدمير منظومة الزواج لصالح اللاشيء، وتشييء الجنس وتحويله إلى سلعةٍ، الطلب عليها غير مرن، وهو منطق من يقولون إن الشاري يوقع على أي شيء، فإذا كان الشاري كذلك، فأين الشارية، أم أن للرجال احتياجات جنسية فطرية، بينما هذه الاحتياجات غير موجودة لدى الإناث؟

وبينما ينام الأهالي والشباب في "التريندات"، لم تسمع الغالبية بهذا القانون، أو تطالع شيئا عنه، أو تناقشه، وهو وإن تقدّم للبرلمان في 24 الشهر الماضي (يونيو/ حزيران) لم يصل إلى الجدل العام إلا بعد شهر، وفي حقيقته لن يؤدّي إلى تخفيض حالات الطلاق، ولا تمكين المرأة كما تزعم مقدّمته، وإنما سيزيد من تعقيد هذه الحالات ومعاناة طرفيها، ولن يحل أية مشكلة سوى مشكلة المحامين في إثبات وجود القائمة والإجراءات القانونية الأخرى .. وليس هناك من مستفيدٍ من وجود هذه القائمة بالأساس سوى المحاكم وخزينة وزارة العدل ومصلحة الشهر العقاري والتوثيق والمحامين، وربما تجّار الأدوات المنزلية والمفروشات، والذين إذا ألغيت القائمة سيفعلون كل ما في وسعهم لإعادتها إلى الحياة لإنعاش تجارتهم.