حريق المعرفة في الخرطوم
بعد أحداث إحراق بعض المكتبات والجامعات المتعمد في الخرطوم، استوقفني عنوان كتابٍ ريتشارد أوفندن (Richard Ovenden)، مدير مكتبة بودليان (Bodleian) في جامعة أكسفورد، "إحراق الكتب: تاريخ التدمير المتعمد للمعرفة" (Burning the Books: A History of the Deliberate Destruction of Knowledge). وصف المؤلف الإحراق المتعمّد الذي طاول بعض خزانات الكتب والمخطوطات في مدن تاريخية، مثل بغداد، وغرناطة، وواشنطن. والآن تضاف إليها مدينة الخرطوم التي فقدت جزءًا من فضاءاتها المعرفية النابضة بالحياة. وفي مقدّمة هذه الفضاءات المعرفية مكتبة مركز محمد عمر بشير للدراسات السُّودانية، في جامعة أم درمان الأهلية، التي أُحرقت في يوم الاثنين، 15 مايو/ أيار 2023. وقد وصف الصحافي مرتضى أحمد الحادث في مقال بعنوان: "وثائق وسط النيران... الحرب تهدّد بمحو ذاكرة السُّودانيين"، استهله بقوله: "قضت النيران بالكامل على مكتبة مركز محمد عمر بشير للدراسات السُّودانية في جامعة أم درمان الأهليَّة، وتركت حاملات الكتب خاوية تكسوها آثار اللهب شديدة السواد؛ لتروي فصلًا من تراجيديا فاجعةٍ معرفيةٍ، نظرًا لما كانت تحتويه المكتبة من كتب ووثائق ومخطوطات يدوية نادرة؛ لشخصياتٍ ذات اسهاماتٍ وطنية، برزت خلال حقب متفرقة من تاريخ هذا البلد". وبذلك رسمت مُخلَّفات الحريق "صورة مظلمةً لمستقبل دُور حفظ التأريخ والإرث الثقافي بالسُّودان، في ظل نيران الحرب المحيطة بها، وسط مخاوف مِنْ أن يتسبب الصراع في محو ذاكرة هذا البلد الغنية بمنتوج معرفي وفكري." وعضد الكاتب هذا المشهد الكئيب بشهادة المعتصم أحمد الحاج، مدير جامعة أم درمان الأهليَّة، وأحد أعضاء هيئة تدريسها المؤسسين، الذين عاصروا نشأة المركز منذ كان فكرة، وأسهموا في تنفيذ رسالته التي تهدف إلى "دعم وتطوير وتنمية البحوث في مجال الدراسات السُّودانية المعاصرة في مختلف الميادين، ومساعدة الدارسين والباحثين في الداخل والخارج... وتوفير المراجع والوثائق والمعلومات في كل جوانب الحياة في السُّودان... وتشجيع التأليف والنشر في شتى مجالات الحياة السُّودانية، حتى تُوفِّر ذخيرة حيَّة ومتنوعة من المعلومات عن السُّودان". وبحقٍّ كان إنجاز المؤسّسين رائعًا في إثراء مكتبة المركز بمخطوطات ووثائق نادرة عديدة، ونشروا أبحاثا رائدة عديدة في مجال الدراسات السُّودانية، والتي يقارب كمّها 50 عنوانًا. وتحسّرًا على ضياع هذا العطاء المتراكم، وصف المعتصم إحراق مكتبة المركز بأنه: "عمل مدمّر، من شأنه أن يعصف بالإرث الثقافي والأدبي وتاريخ هذا البلد، ونخشى أن يمتدّ ليشمل مكتباتٍ أخرى مهمةً، تقع داخل نطاق المواجهات المسلحة في الخرطوم ومدينة أم درمان، وقد باتت ذاكرة السُّودان مهددةً بأن يمحوها هذا الصراع المتطاول". وبهذا الإحراق المتعمّد، أضحت مقتنيات مكتبة مركز محمد عمر بشير النادرة أثرًا بعد عين ورمادًا تذروه الرياح.
لم تكن المؤسّسات الأكاديمية وحدَها التي تأثرت بإفرازات الحرب المدمرة، بل امتدّت أيدي قوات الدعم السريع وعصابات النهب والتخريب إلى المكتبات الخاصة
(2)
لم تقف أحداث الإحراق والسلب والنهب عند أبواب جامعة أم درمان الأهلية، بل تعدّتها إلى جامعة الأحفاد، رائدة التعليم الأهلي للبنات في السُّودان. إذ سجَّل رئيسها قاسم يوسف بدري خطابًا مؤثرًا لبناته الطالبات، وأسرهن، والخرّيجات، وزميلاته وزملائه العاملين في الجامعة، سائلًا الله أن يحفظهم جميعًا، ويحفظ السُّودان. ثم أبلغهم أنَّ الجامعة قد تعرّضت للنهب "المسلّح والتخريب"، وأكَّد أن جميع "السجلات وقواعد البيانات الخاصة بالجامعة وطالباتها وخرّيجاتها" محفوظة في مكانٍ آمنٍ. كما شكر العاملين على صبرهم إزاء توقف رواتبهم الشهرية، بسبب خروج النظام المصرفي عن الخدمة، ووعدهم بحلّ هذه المشكلة "بالتشاور مع البنك والجهات ذات الاختصاص". وأفادهم بأنه يعمل إلى جانب القوى المجتمعية لإيقاف "الحرب المؤسفة" لما "فيها من قتل، وترويع، وتشريد، وانعدام للأمن والخدمات الأساسية" في وطن أحبّه "بكل ما فيه من تسامح وتعايش سلمي، وظلّ يعمل "فيه بإخلاص وتجرد لرفعة شأنه بين الأمم." وطمأن قاسم بدري الطالبات بأنَّ إدارة الجامعة ستبذُل قصارى جهدها، "حال هدوء الأوضاع، وانتظام متطلبات الحياة"، لعودة الدراسة، من دون أن "يترتب على هذا التوقف أي قصور أو تأخر".
(3)
لم تكن المؤسسات الأكاديمية وحدَها التي تأثرت بإفرازات الحرب المدمرة، بل امتدّت أيدي قوات الدعم السريع وعصابات النهب والتخريب إلى المكتبات الخاصة، ونذكر منها مكتبة الإعلامي العتيد والوزير الأسبق علي محمد شمّو، التي تحتوي على نفائس التسجيلات الصوتية والكتب والمخطوطات النادرة. وذكرت صحيفة أخبار السُّودان إنَّ شمّو "كان مُصِرًّا على عدم مغادرة بيته رغم انقطاع المياه والكهرباء أكثر من شهر"، بعد اندلاع الحرب اللعينة، فضلًا عن التهديدات اليومية لأفراد قوات الدعم السريع، الذين نصحهم شمّو، في إحدى المرّات، بالابتعاد "عن بيوت المواطنين، وعدم استباحتها، فعادوا أدراجهم كسيفين"؛ إلا أنه "اضطرّ" لمغادرة منزله وترك ممتلكاته الثمينة، "نزولًا لضغوط أسرية"، وانتقل إلى حي أبوروف بأم درمان. وعندما تأكّد الجناة خلو المنزل من ساكنيه في يوم الخميس 18 مايو/أيار 2013، اعتدوا على الخفير، وأوسعوه ضربًا، ثم نهبوا سيارة تايوتا برادو لشمّو، وسيارة صالون لانسر (Lancer) ثانية لإحدى كريماته، التي تعمل عضو هيئة تدريس في جامعة سعودية، وسيارة تايوتا بوكس ثالثة لزوج كريمته، ومنقولات ثمينة أخرى، وعبثوا بالمكتبة الصوتية والورقية التي لا تقدّر بثمن، ثم عاثوا في المنزل نهبًا وتخريبًا. ولذلك يقول الصحافي محمد عبد القادر: "أوجعني نهب المكتبة الصوتية، وسرقة الذكريات المحفورة" بصوت علي شمّو "في وجدان أهل السُّودان. من أين أتى هؤلاء؟ الذين لا يعرفون مقام رجل أشهر من السنابل والشمس والنيل... عَلَمٌ لا يقل قيمة عن النشيد الوطني، وثروة قومية ظلت محلّ اتفاق بين كل من وفدوا إلى مسرح السياسة في هذا البلد". إنها الحرب التي "لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ"؛ ولذلك يجب إيقافها بشتّى الوسائل والسبل، قبل أن تتمدّد أفقيًا خارج مدينة الخرطوم، وتأخذ أشكالًا إثنيةً، ثم تُدَوَّل لمصالح دول إقليمية ودول ذات مصالح جيوسياسية في الإقليم!
تُشبه مأساة الخرطوم بمدنها الثلاث مأساة بغداد، التي غزتها مليشيات المغول (التتار) في 14 فبراير 1258م، ونهبت أموالها، وأشعلت النيران في مرافقها العامة
(4)
تؤكّد شهادة الصحافي فيصل محمد صالح حالة الفوضى والسلب والنهب التي عاشتها، ولا تزال تعيشها، الخرطوم بمدنها الثلاث. إذ زار فيصل عددًا من أحيائها في يوم الاثنين 15 مايو/أيار 2023، وكتب: "أتيح لي قبل يومين أن أتحرك في جولة طويلة من الحاج يوسف وحلة كوكو إلى شمبات؛ لإجلاء بعض أفراد الأسرة، ثم العودة مرّة أخرى. بدت مدينة بحري كمدن الأشباح، مدينة في حالة حرب حقيقية، دخلنا من حلة كوكو إلى القنطرة ثم كافوري، أكاد أجزم أن 90% من بيوت كافوري خالية من السكان، يسكنها بعض الخفراء، ويسكن جنود الدعم السريع بعض بيوتها أيضًا، وتعيث عصابات النهب والسلب في باقي المنازل. تعرّضت المنازل للكسر والنهب، حمل اللصوص ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، في المرحلة الثانية جاءت الدفارات والتكاتك فحملت الثلاجات والغسالات والأجهزة الكهربائية. في هذا اليوم، رأيت الجزء الثالث من النهب، مجموعات كبيرة من النساء، تدخل هذه المنازل لتأخذ الثياب التي رماها اللصوص على الأرض في بحثهم عن النقود والذهب. كن يحملن بقج الثياب الكبيرة على رؤوسهن ويخرجن من كافوري زرافات... وزرافات، ينتظرن المواصلات، أو عربات الكارو لتنقلهن مع المسروقات". تعكس المشاهد التي رواها فيصل طرفًا من حالة الفوضى التي تعيشها الخرطوم، وطرفًا من إفرازات الصراع الطبقي، والحرمان النسبي، الذي أثقل كاهل بعض الشرائح المجتمعية الضعيفة في أماكن تجمّعاتها العشوائية التي تفتقر إلى أساسيات الحياة الكريمة. وهنا يكمن سوء التخطيط الحضري وتقيحات جراحات الحروب الأهلية في الأقاليم الفقيرة، التي نزح بعضٌ من أهلها المتضرّرين إلى الحاضرة الخرطوم من دون يجدوا مأوى يليق بكرامتهم الإنسانية.
(5)
تُشبه مأساة الخرطوم بمدنها الثلاث مأساة بغداد، التي غزتها مليشيات المغول (التتار) في 14 فبراير/ شباط 1258م، ونهبت أموالها، وأشعلت النيران في مرافقها العامة ودورها السكنية، وألقت بعضًا من مكتنزات مكتباتها العامة في نهر دجلة، وعاثت سلبًا ونهبًا في حواريها أربعين يومًا، فهذا هو ديدن المليشيات العسكرية التي لم تخضع لتدريب مهني، ولم تؤهل وظيفيًا لحفظ الأمن القومي بمفهومه الواسع؛ لأن ذاكرتها الجمعية قد أُسّست لتكون خاويةً من الإحساس بالوطن، والانتساب إليه، والشراكة في مكتسباته الثمينة، والالتزام الأخلاقي بالحفاظ على ذاكرته التراثية والثقافية. نعم مسؤولية الخراب والدمار الذي طاول مدن العاصمة القومية الثلاث (الخرطوم، والخرطوم بحري، وأم درمان) تقع على عاتق الذين دمّروا بعض الفضاءات المعرفية العامة والخاصة، والذين فرَّطوا في حراسة مقتنياتها وأمنها العام؛ لكن الأمل يبقى متقدًا بتفاؤل بعض المخلصين والمخلصات من بنات السُّودان وأبنائه الذين يؤمنون بأن "للأوطان في دم كلّ حرٍّ/ يدٌ سلفتْ ودَين مستحقُّ". ومن أمثال هؤلاء المعتصم أحمد الحاج، الذي ختم حسرته على إحراق مكتبة المركز، ونهب أثاث جامعة أم درمان الأهليَّة، بقوله: "نحن الآن سننهض بأفضل مما كنا عليه، فإن كان هناك آباء أسّسوها، فالآن هناك عشرات الآلاف من الخرّيجين المنتشرين في العالم وعشرات الجهات الداعمة؛ فالجامعة لا تموت، والفكرة والمنارة ستظل مشتعلةً، ومتى انتهت هذه الظروف ستواصل الجامعة مسيرتها حتى تحت ظلال الأشجار، وستنهض من جديد بأفضل مما كانت" عليه.
السُّودان يمتلك كفاءاتٍ حادبةً على إنقاذه من براثن هذه الحرب الآثمة ومعالجة جراحاتها المؤلمة؛ إذا توفّرت لأبنائه وبناته الإرادة الوطنية الموحّدة
هكذا كان يفكر النهضويون الذين صنعوا تاريخ اليابان ونهضتها المعاصرة بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، فدعونا نستأنس بروحهم النهضوية، بعيدًا عن الإحباط والشعور بالانهزام، فالسُّودان يمتلك كفاءاتٍ حادبةً على إنقاذه من براثن هذه الحرب الآثمة ومعالجة جراحاتها المؤلمة؛ إذا توفّرت لأبنائه وبناته الإرادة الوطنية الموحّدة، التي تقدّم الكسب العام على المصالح القطاعية - الحزبية الضيقة، وتنظر إلى قضايا التغيير الإيجابي ببصيرة واعية، ورؤية استراتيجية فاحصة وقادرة على تجاوز التحدّيات واستثمار الفرصة المتاحة. ويحتاج استثمار الفرص الممكنة إلى تخطيطٍ استراتيجيٍ متكاملٍ، رسم الوليد آدم مادبو في مقاله "أمثولة الدولة الوطنية، تداعيات الحرب الطاحنة" في "العربي الجديد" بعض معالمه التي يجب أن "تراعي المزايا النسبية لكل إقليم، وتراجع قانون الأراضي وقانون الجنسية، وتصمّم الخريطة الاستثمارية التي تُعنى بتطوير الموارد الطبيعية والبيئية، وتهتم بالتحديث والتطوير المؤسسي الذي لا يمكن من دونه للتجربة الفيدرالية أن تنجح، وتعالج الإشكالات التربوية والتعليمية التي تُعد المواطن الصالح والمنتج، وتعتمد أسس المواطنة القويمة، وتستقطب الطيور المهاجرة التي هي بمثابة الخزينة المعرفية للبلاد، وتطوِّر الإمكانات الذهنية والفكرية والثقافية والسياسية الإدارية للشباب الذي فجّر ثورة ديسمبر، فأولئك قومٌ يستحقون التبجيل والرعاية والاعتناء".