بصرة السياب تبتسم للخليج

03 يناير 2023

أعلام الدول المشاركة في كأس الخليج على واجهة مبنى في البصرة (29/12/2022/فرانس برس)

+ الخط -

ما إن تقرأ اسم البصرة حتى يقفز أمامك تاريخ من الأحداث والوقائع والتفاصيل، لتنظر عبر نافذة الزمن، وترى الخليفة عمر بن الخطاب، وهو يأمر القائد العربي المسلم عتبة بن غزوان لبناء مدينة للجند، بعدما نجح جنود المسلمين في الحيرة في قتل أحد كبار قادة جيش الفرس في معركة وقعت قرب الحيرة. يومها، كان الخليفة الراشدي الثاني يخشى أن يطلب الفرسُ المدَد، فقرّر أن يقطع الطريق عليهم ببناء مدينةٍ على تخوم بلادهم، فكانت البصرة أول مدينةٍ يبنيها العرب المسلمون خارج الجزيرة العربية، في العام 14 هجرية، وكانت بداية قصةٍ ما زالت لم تبح بكثيرٍ من تفاصيلها.
لم يكن بناء العرب المسلمين البصرة طمعاً في مرعى أو أراضٍ خصبة، كما يعتقد بعضهم، وإنما لدافع قتالي عسكري تكتيكي بحت، فقد منعت الفرس من وصول المدد إليهم يوم معركة القادسية، واضطرّت جيوشهم إلى الفرار والهرب عبر مسالك أبعد وأعقد من خلال شرقي العراق وشماله الشرقي، الأمر الذي زاد من صعوبة الانسحاب، وسهّل على العرب المسلمين الملاحقة، وقهر من تبقوا منهم ومطاردتهم، فكانت موقعة جلولاء وغيرها.
كانت البصرة أرضاً سبخة قليلة الموارد، وهو ما دفع الأحنف بن قيس إلى أن يفد إلى أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، ليشرح له حال أهلها وضيق ما تجود به أرضهم، فألحق الخليفة الراشدي الثاني أهل البصرة في العطاء، وأن يأمر أبا موسى الأشعري ليحفر لهم نهراً، فما زال ذاك حالها، حتى جاء عصر الفتوحات الإسلامية شرقاً، وتوسعت المدينة لتتحوّل في عهد الدولة الأموية، ثم العباسية إلى مركزٍ مزدهر لتنافس بغداد في عظمتها وأوج ازدهارها.
لم يعد نهر أبي موسى الأشعري وحده يجري في عروقها اليبِسة، وإنما صارت الأنهار قرابة الاثني عشر ألفاً، كما أحصاها الإصطخري في "المسالك والممالك"، والتي يقول عنها إنه لم يكن يصدّق ما قيل عن كثرة الأنهار فيها حتى زارها وتفقد كثيراً منها: "رأيت كثيراً من تلك البقاع، فربما رأيت في مقدار رمية سهم عدداً من الأنهار صغاراً تجري في كلها زواريق صغار، ولكل نهر اسم يُنسب إلى صاحبه الذي احتفره أو إلى الناحية التي يصبّ فيها وأشباه ذلك من الأسامي"... 

بقيت البصرة تحتفظ بعديد من الأنهار التي كانت تشقّ أحياءها القديمة، حتى عُرفت بفينيسيا الشرق

ويمضي الزمن وتدور عجلة أيامه، لتصير البصرة من أهم الولايات العثمانية، وتتحول إلى مدينة تجارية عرفها التجار العرب وغيرهم، فقد كانت حلقة وصل بين تجارة العالم القديم، الهند وأوروبا، حتى أضحى الخليج العربي كله، خليج البصرة، كما جاء في خرائط الدولة العثمانية. وبقيت البصرة تحتفظ بعديد من تلك الأنهار التي كانت تشقّ أحياءها القديمة، حتى عُرفت بفينيسيا الشرق، وكانت ملاذاً لكبار تجّار العراق والكويت والخليج، واحتفظت بكثير من بهاء ماضيها الموغل في القدم، فكان أن وفد إليها كثيرون من أهالي نجد واستقرّوا فيها وباتت لهم داراً ووطناً، وآثارهم ماثلة في زمننا. ويصعُب أن تُذكر البصرة من دون أن تُذكر الكويت، توأم الخليج الذي توثقت عراه عبر الزمن، فليس هناك من كويتي ليس له نصيب من البصرة، والعكس صحيح.
ولعلّ الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن المنصرم قد أكلت الكثير من جرف بهاء المدينة وروعتها، فقد كانت المدفعية الإيرانية تقصف المدينة بشكل شبه يومي، وتراجعت أهمية المدينة بعد أن تحوّلت إلى ميناء يصعب الوصول إليه لتبدأ رحلة موانئ خليجية أخرى بالنهوض وأخذ مكانة مدينةٍ لا تشبه إلا نفسها. وكان العام 1990 مفصلياً في مسيرة هذه المدينة، فمنها انطلقت قواتٌ عراقية لغزو توأمها، دولة الكويت، ليبدأ فصلٌ أكثر ألماً لمدينة عشقت الجميع وتنكّر لها الجميع، ومن قصف طائرات تحرير الكويت إلى قصف طائرات احتلال العراق عام 2003، دفعت البصرة ثمناً باهظاً، لا يشبه أي ثمن آخر يمكن أن تدفعه أي مدينة، فاستعمال القنابل المخضّبة باليورانيوم أدّى إلى تفشّي الأمراض السرطانية بين أبنائها، والذين لا يزالون يعانون من آثارها.

كان فصلاً قسرياً بين البصرة وخليجها، بين البصرة وهويتها، ذاك الذي أعقب العام 2003

كان فصلاً قسرياً بين البصرة وخليجها، بين البصرة وهويتها، ذاك الذي أعقب العام 2003، فقد تحوّلت المدينة إلى مرتع لخطط التغيير الديموغرافي بقيادة قوى وأحزاب ومليشيات، فهجّرت كثيرين من سكّانها الأصليين، وحوّلت المدينة، التي ما عُرفت إلّا بثغر العراق الباسم، إلى مدينة عابسة بائسة، تعبث بها ذئاب الليل، تُهرِّب نفطها وتستولي على خيراتها. وأكثر من هذا وذاك، تحاول أن تغيّر من هويتها وثقافتها، فالبصرة ما عرفها أهل الخليج والعراق إلّا مدينة حب وتعايش وسلام، مدينةً ترحب بكل غريب، كحال مدن الموانئ التي لها ثقافة متنوّعة، ملوّنة ترفض أن تكون ذات لون واحد.
تستعد البصرة اليوم لاستضافة بطولة كأس الخليج العربي، حقها الذي طال انتظاره، حقّ سنوات طويلة من التعب والركض وراء هذا الحلم، تستعدّ لتعلن للجميع أنها ما زالت بصرية خليجية لا تنتمي سوى لهذا الخليج، ففيه رائحة سنواتٍ خلت، سنواتٍ كان فيها الخليجي لا يطيب له التنزّه والسياحة إلا بين ربوع العشار وأبو الخصيب والزبير، سنواتٍ طوال، وهذي الجراح التي مزّقت جسد شاعرها الأريب، بدر شاكر السياب، تمزّق بصرة الخليج، شوقاً وحنيناً لأهلها، أهل الخليج.
هي أكثر من مجرّد بطولة، هي أكثر من مجرّد منافسة سيجتمع فيها أهل الخليج أياما معدودات، ثم ينتهي كل شيء، هي إعلان هوياتي بلباس الساحرة المستديرة، يكفي أن تتابع هذه الحفاوة البصرية بالقادمين من كل دول الخليج العربي، لتدرك حينها أنها مناسبةٌ لإثبات هويةٍ طالما سعت قوى وتيارات وأحزاب ودول لتغييرها، هوية اعتقد كثيرون أنهم نجحوا في تغييرها، فجاءهم الردّ بصرياً بأنّ مدينتهم خليجية عربية عراقية، لا تعرف غير ذاك الهوى بديلاً.

96648A48-5D02-47EA-B995-281002868FD0
إياد الدليمي
كاتب وصحافي عراقي. حاصل على شهادة الماجستير في الأدب العربي الحديث. له عدة قصص قصيرة منشورة في مجلات أدبية عربية. وهو كاتب مقال أسبوعي في عدة صحف ومواقع عربية. يقول: أكتب لأنني أؤمن بالكتابة. أؤمن بأن طريق التغيير يبدأ بكلمة، وأن السعادة كلمة، وأن الحياة كلمة...