اليمن وصراعات الماضي في حرب الوكلاء

اليمن وصراعات الماضي في حرب الوكلاء

29 نوفمبر 2021
+ الخط -

تحتل مدينة شبوة اليمنية موقعاً مركزياً في معادلة الصراع في جنوب اليمن، بحيث تقف اليوم في مفترق طرق، فخلال سنوات الحرب، دفعت الدول المتدخلة في اليمن الصراع بين وكلائها المحليين إلى المواجهة العسكرية، إذ أصبحت المدينة ساحة خلفية لإدارة الصراع في الجنوب، وعزّز ذلك التصدّعات المحلية، السياسية والجغرافية والهوياتية فيها. وفيما ظل تصعيد التوترات في شبوة يخضع لحسابات الوكلاء، فإنّ التطورات العسكرية الحالية في أكثر من جبهة، بما في ذلك تغيير الحلفاء والخصوم استراتيجيتهم في إدارة المعارك، فرض على مدينة شبوة تحدّيات عديدة، قد تدفع بها إما إلى الانزلاق لدائرة العنف، أو تصعيد وتيرة الصراع إلى مستوياتٍ غير مسبوقة.
دفعت عوامل عديدة في تكثيف الصراع في مدينة شبوة، فقد فرض واقع أنّها مدينة نفطية تبعات سياسية واجتماعية عليها، إذ تخوض القوى المتنافسة حرباً للسيطرة على ثرواتها. ومن جهةٍ أخرى، أثّرت التحولات العسكرية في خريطة الحرب على مدينة شبوة، بما في ذلك مضاعفة التهديد على المجتمع المحلي، إذ إنّ موقعها الجغرافي بصفتها بوابة أمامية لمناطق الثروات، سواء في مأرب أو حضرموت، شكّل ضغطاً عسكرياً وسياسياً على المدينة، وذلك بجعلها خطل دفاعيا أوليا عن المدن المجاورة، فيما أدّى تركّز المعارك في جبهات مدينة مأرب، على حدود شبوة، إلى نقل المعارك إلى مناطقها، خصوصاً بعد سيطرة جماعة الحوثي على ثلاث مديريات في شبوة، فأدّى ذلك إلى نزوح آلاف المدنيين من جبهات القتال إلى مراكزها الحضرية، ومن ثم الضغط على مواردها، إلّا أنّ الأخطر من وجهة المعارك التي باتت تهدّد شبوة تصدّع المجتمع المحلي نتيجة الصراعات الداخلية، فقد خلفت دورات الصراع المتعاقبة بين فرقاء السلطة في جنوب اليمن، المجلس الانتقالي الجنوبي، المدعوم من الإمارات من جهة، والسلطة الشرعية المدعومة من السعودية من جهة أخرى، انقساماً مجتمعياً حادّاً في شبوة أكثر من أي مدينة أخرى في جنوب اليمن، والذي نتج عنه دفع قطاعاتٍ واسعةٍ من المجتمع في شبكات الصراع، فضلاً عن أنّ نتائج المعارك التي حدّدت مراكز النفوذ في خريطة الجنوب، والتي تبدأ من مدينة أبين كمنطقة تماسّ بين الطرفين، جعلت مدينة شبوة خط الدفاع الأول عن معقل السلطة الشرعية، مقابل المناطق التي يسيطر عليها المجلس الانتقالي، إذ عملت هذه القوى على تغذية الانقسامات الاجتماعية المتجذّرة في البيئة المحلية، وتوظيفها في معاركها لحسم السلطة.

أصبحت مدينة شبوة جزءاً من معادلة الدولة اليمنية الموحدة، ومركز ثقلها السياسي في الجنوب

تتعدّد أقطاب الصراع المحلي في مدينة شبوة، إذ تشمل توليفةً متناقضةً من القوى القبلية والسياسية التي تتعدّد مشاربها السياسية وولاءاتها، بما في ذلك الجماعات الجهادية التي تنشط في نطاقات اجتماعية معزولة في صحاري شبوة المتطرّفة، وفي حين تتنافس هذه القوى على حسم الهوية السياسية للمدينة، فإنّ حجم تأثيرها على المشهد المحلي يتباين، ففي الهامش السياسي، تحضر القوى القبلية التي كانت جزءا من السلطة المشيخية التي كرّسها الاستعمار البريطاني، فقد اصطفّت مع المجلس الانتقالي الجنوبي كتكتيك مرحلي، إذ تصطفّ مع أي دعواتٍ انفصاليةٍ قد تحقق أحلامها في العودة إلى السلطة، إلى جانب هذه القوى، مجاميع قبلية مشتّتة تتحرّك وفق حساباتها السياسية، فيما تتصدّر قوى مركزية أكثر فاعلية السياق السياسي المحلي، يحكمها صراعٌ ماضويٌّ مختلف، وإن اتخذ صيغاً سياسية جديدة، وهو ما يمكن أن يطلق عليه "إرث دورات الحروب الأهلية في جنوب اليمن" فإضافة إلى القوى القبلية التي كانت معاديةً لحركة الاستقلال عن بريطانيا، ثم العداء للجبهة القومية التي ورثت السلطة حينها، نتج عن الاقتتال الأهلي في أحداث يناير/ كانون الثاني 1986، إبّان جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، تكريس انقسام مناطقي في الجنوب، ضمن معادلة محور أبين - شبوة، ويمثل الرئيس عبد ربه منصور هادي أحد رموزه الحاضرة في المشهد الحالي، مقابل محور الضالع - لحج، والذي أعيد إنتاجه، ضمن سياق حرب صيف 1994 على جنوب اليمن، حين تحالف محور أبين - شبوة، الطرف المهزوم في أحداث يناير/كانون الثاني مع الرئيس السابق علي عبد الله صالح وحزب التجمّع اليمني للإصلاح، فأصبحت مدينة شبوة جزءاً من معادلة الدولة اليمنية الموحدة، ومركز ثقلها السياسي في الجنوب. ومع دموية تلك الصراعات المتعاقبة، ما زالت نتائجها الكارثية تحكم التموضعات السياسية في جنوب اليمن، حيث تتكثف الانتماءات المناطقية لهذه المحاور ضمن خط التصدعات الجنوبي - الجنوبي، ففي حين صدّرت الحرب الحالية الصراعات الثنائية المناطقية من جديد إلى الواجهة السياسية، فإن القوى القديمة والجديدة أعادت تموضعها وفق هذه الصيغة، فمن جهةٍ ركز حزب التجمع اليمني للإصلاح ثقله في مدينة شبوة، كمعقل أخير له في جنوب اليمن، حيث يسيطر على رأس السلطة المحلية، ممثلاً بالمحافظ محمد صالح بن عديو. ومن جهة أخرى، يناور المجلس الانتقالي في مساحة تمثيل جنوب اليمن، وبكونه امتداداً جغرافياً لمحور الضالع - لحج، الذي أزيح من السلطة، ويدير معركته في شبوة ضد الشمال الذي يمثله حزب الإصلاح، والرئيس هادي، كمظلة سياسية له، فيسعى إلى إزاحتها ضمن توجّه مناطقي لتكريس سلطته، يدعمه في ذلك حليفه الإماراتي.

الإمارات التي ترى في شبوة ثقلاً اقتصادياً وسياسياً في الجنوب لا بد من حسمٍ لصالح وكيلها، نوعت أدواتها لاختراق المدينة

لا يمكن قياس مسارات الصراع البيني في مدينة شبوة وغيرها من مدن الجنوب، من دون إدراك طرق التخريب السياسي والاجتماعي الذي اعتمدته الإمارات ونتائجه على الأرض، ففي حين راهنت على "النخبة الشبوانية" ذراعاً عسكرياً لها، لفرض واقعٍ جديدٍ في شبوة، فإنّ انحسار شعبية النخبة، لتجذّر الصراعات القبلية وانقسامها ما بين الشرعية و"الانتقالي"، وكذلك قبضة حزب الإصلاح القوية في مفاصل الدولة في شبوة، حال، ربما بعض الوقت، بأن يكون مصير شبوة كمدينة عدن التي تسيطر عليها الأحزمة الأمنية التابعة لـ"الانتقالي" إلّا أنّ الإمارات التي ترى في شبوة ثقلاً اقتصادياً وسياسياً في الجنوب لا بد من حسمٍ لصالح وكيلها، نوعت أدواتها لاختراق المدينة، فسعت إلى تغيير المعادلة في مدينة شبوة من خلال وكيلها المحلي، وذلك باستغلال تفاقم الأزمة الاقتصادية ومعاناة المواطنين، إذ دفعت بالشارع في معركتها ضد السلطة المحلية، وذلك بدعمها احتجاجات شعبية، أسفرت عن ضحايا مدنيين وحملة اعتقالات نفذتها السلطة المحلية، فضلاً عن شرائها ولاءات خارج دائرة نفوذها الحالي. ومع تعذّر حسم الصراع في المدينة، لجأت الإمارات ووكيلها إلى تحريك ورقة القبائل الموالية لها، واستخدامها لزعزعة الاستقرار في مدينة شبوة، وتمظهر ذلك في صدامات متكرّرة بين القبائل والقوات الموالية للشرعية، إضافة إلى دفع القبائل الموالية لها لمنع القوات التابعة للشرعية من دخول معسكر "العلم"، وذلك بعد انسحاب القوات الإماراتية من المعسكر.

مخاطر تغذية الاحتجاجات القَبلية لا تنحصر في تصعيد كيانات ما قبل الدولة على حساب تقويض ما تبقى من وجود للدولة

وفي حين أتى انسحاب الإمارات من شبوة نتيجة تغيير استراتيجيتها، بما في ذلك ضغط المطالب المحلية، فإن ذلك لم يغيّر المعادلة المحلية بين المتصارعين، فيما أفسح انسحاب القوات السعودية، أخيراً، المجال أكثر للقوى المحلية لوراثتها ومحاولة تغيير موازين القوى لصالحها، سواء باستخدام سلاح التحشيد القبلي، أو استقدام وجاهاتٍ جديدة، وفرضها على المشهد السياسي المحلي، وتمثل عودة الشيخ عوض بن محمد الوزير إلى شبوة من مقرّ إقامته في دولة الإمارات خطوة إماراتية جديدة لإدارة الصراع، وذلك لتحقيق أهداف سياسية فشل الوكلاء ورعاتهم في تحقيقها، من جهة تكريس زعامة قبلية تنحدر من سلطنة العوالق التي حكمت شبوة في الماضي، في مواجهة محمد صالح بن عديو، خصم الإمارات و"الانتقالي" وتحويل الشيخ عوض الوزير إلى حامل مشروع "الانتقالي" الذي فشل بتحقيقه من خلال نخبته السياسية التي لا تحظى بشعبية كبيرة في المجتمع الشبواني، بما في ذلك انحسار شعبية النُخبة الشبوانية. ومن جهة ثانية، لشرعنة مطالب "الانتقالي" في سياق قبلي، لا في سياق سياسي، حيث تتقاطع مطالب القبائل التي قادها الشيخ عوض الوزير واجتمعت في مديرية نصاب مع أهداف "الانتقالي"، وهي إزاحة بن عديو وحزب الإصلاح، وخروج القوات التابعة للشرعية من المعسكرات واستبدالها بالنُخبة الشبوانية، ومن ثم استكمال "الانتقالي" لسيطرته على مدينة شبوة.
بعيداً عن مآلات الصراع البيني المحتدم في مدينة شبوة، ونتائجه في المستقبل، فإنّ مخاطر تغذية الاحتجاجات القَبلية لا تنحصر في تصعيد كيانات ما قبل الدولة على حساب تقويض ما تبقى من وجود للدولة، وإنما أيضا تكريس الصراعات في مدينةٍ تعاني من انقساماتٍ قبليةٍ واجتماعية وسياسية عميقة، الأمر الذي يهدّد بتقويض فرص تطبيع الحياة في المدينة، حتى في حدّها الأدنى، وكذلك تكريس الفوضى وتهيئة المجتمع المحلي لصراع طويل؛ كما أنّ تصدير المشايخ والسلاطين في المشهد السياسي المحلي يمثل اجتراراً للماضي بأبشع صوره، وكذلك فقراً في مخيلة بائسة، فشلت ليس في استيعاب سيرورة التاريخ فقط، وإنّما أيضاً في قدرتها على إنتاج أدوات سياسية جديدة تواجه تشكيلاتٍ تحقق مآربها في تجزئة اليمن.