الكتابة كحياة تمنّيتها

الكتابة كحياة تمنّيتها

03 اغسطس 2023
+ الخط -

تثيرني الكتابة التي تحيلني إلى حياةٍ حالَ قدري عن نوالها، وكأنها حبيبةٌ نأت عني غير عامدة. وكان يجب أن تكون معي أو تصاحبني على الأقل، كتابة تُغنيني بلا ثروة، ولا مال، ولا جاه، هي كنزي المفقود وقد سكن الورق، فكم يحمل الورق ويداري من كنوز.

في رواية "الصمت البرّي الجامح"، للإنكليزية رينور وين، الصادرة أخيرا عن سلسلة "إبداعات عالمية" (الكويت)، وهي كاتبة ورحّالة، صدر كتابها الأول "درب الملح" في 2018، لتسرد فيه وقائع رحلتها مع زوجها في الساحل الجنوبي الغربي لإنكلترا، فيما كان من المتوقّع أن تكون تلك هي الأشهر الأخيرة من عمره، حتى كان كتابها الثاني تستكمل فيه رحلتها نفسها في البرّية مع الزوج، شغف بالطبيعة والكائنات مع تداخلها بالذكريات الأولى، من خلال أم أصبحت مريضة وقعيدة السرير هي الأخرى، والكاتبة مصدر أمل وطاقة للاثنين، الزوج والأم.

رحلة إنسانية وشغف بالكائنات والأمل والحياة والكتابة، الكتابة تقول محبّة الأمل، حينما يزحف الموت على ذلك الأمل، ما الذي تقوله الكتابة للقلب؟ هل الكتابة هي أغنية كم اشتهينا سماعها، أغنية الكائنات المنتشية بالأمل، الكتابة هي ذلك الأمل المخاتل، وكأنها حافّة حياة نكاد نراها ونحاول جاهدين أن نخلقها خلقا فوق الورق، أو هي كحبلٍ مشدودٍ أسفل لاعب سيرك، حبل لعب، أو حبل نجاة، أو حتى هلاك. وعلى الرغم من ذلك، لا ينقطع ذلك الحبل، ولا يُمسك اللاعب سعادة النهاية أبدا، بل يمارس اللعبة كل يوم وكأنها حياة أخرى لا يُمسكها أبدا، ويعيد العرض أمام جمهور منتظر، هناك، جمهور متخيّل، يبحث في ذلك الورق عما يعوّضه عن تلك الحياة التي لم يعشها، أو خانته، والتي كم تمنّاها، ولكنه لا يُمسك بها إلا في أحلامه، هل لذلك تقترب الكتابة من مادّة الحلم غير المتماسكة والمدهشة؟

ما الذي تقوله الكتابة فينا، ونعجز نحن عن قوله، أو يخفق فينا هذا القول، هل قول الكتابة غناء آخر بلا آلاتٍ سوى الورق والقلم، هل القارئ يحبّ ما يعجز عن قوله وقد كان قريبا منه وقريبا من قلبه وشغفه، فأنابت الكتابة عن عجزه. وهل لذلك يفرح القارئ ويبني للكاتب تلك الأسطورة داخله كنجم ظهر له بغتة، وأناب عمّا يحبه قلبه فوق الورق؟

"مع بزوغ الضوء الرمادي، تسلقت إلى أبعد صخرة وجلست مدلية قدميّ على الحافة، على حافّة الأرض وبداية البحر، في مكان بين العوالم، في زمانٍ بين الأعوام، في حياة بين الحيوات"، "إنني تائهة، لكني هنا، ولو للحظات، أجد نفسي"؛ هل يرحل الرحّال كي يجد نفسه، فيجد الكتابة، التي، بها، نجد نحن أيضا أنفسنا حتى وإن لم نسافر، وإن لم تكن لنا تلك الأم المريضة أو الزوجة المحبّة، حينما نمرض ونمشي في الغابة بلا أمل بعد ما خسرنا البيت وفقدناه؟

حينما يستبدل الكاتب خساراته بمكاسب رمزية، هي الرواية، أو الكتابة، أو القصة، أو الشعر، أو اللوحة المرسومة، أو الموسيقى، أو حتى مجرّد الرحلة بلا أي أمل في أي أثر متروك أو أي رمز يباهى به في ما بعد.

نحن أمام مباهاة رمزية، كتابات البراري والأحراج والغابات وحوافّ المدن، تلك الكتابات التي انسلخ فيها أصحابها من ذاكرة المدن ومصانعها وعلاقاتها المتشابكة، وعادوا إلى طفولاتهم وأشجارهم وذكرياتهم وجداولهم الأولى. تحضُرني الآن ذكريات العربي باطما رحمه الله، عن الريف المغربي، وطفولته القاسية ومدرسته وأخيه الذي مات في شبابه وحيدا ومصروعا وقصص الحب والجنون والموت المبكّر في ريف صحراء، لا هي الصحراء القاسية بالمعنى المألوف، ولا هي الريف المصري في شواديفه ومجاريه وزرعه وأغانيه السهلة المبسطة عن الغرام واللوعة كما اعتدنا سماعها في المسلسلات التي مسختها وزادتها بلاهة، وخصوصا بعد تلك المباني الخرسانية ودخول البنوك وخسارات البورصات والمخدّرات والأسلحة واللهجات المهجنة والممسوخة، إلى تلك الصناعة الرمزية التي أفسدتها السياسة، ومكائد الساسة والمؤتمرات المحبوكة على الساسة كعرض أزياء مجهّز سلفا في مطابخ الزعماء ابتداء من الراعي الخفي، حتى صاحب الفكرة التي تنبثق منه الانقلابات في عرض أفريقيا وطولها عند الطلب واللزوم، فأين هو ذلك الصالح الذي يبحث عن الكتابة، وما يجب أن يكتب في تلك الأيام؟