العودة من المنفى الإلكتروني

العودة من المنفى الإلكتروني

27 اغسطس 2023
+ الخط -

لماذا تصرّ الحكومة الأردنية على إعادة ستة ملايين لاجئ أردني من المنفى الإلكتروني إلى بلادهم، بقوانين تعسّفية تضيّق عليهم الخناق في هذا المنفى الذي اختاروه طوعاً، هرباً من واقعهم؟ هذا السؤال مطروح بإلحاح على الحكومة التي اختارت تمرير قانونين تعسّفيين، أخيراً، هما "الجرائم الإلكترونية" و"حماية البيانات الشخصية". ولئن كنا تحدّثنا، مطوّلاً، عن الأوّل، فإنّ الثاني لا يختلف عن سابقه، كثيراً، بحقل ألغامه؛ لأنّ عبارة "الشخصية" مطّاطة، ورجراجة، قد يُحاكَم الشخص، بموجبها، لأسبابٍ كيديّة تتعلّق بالثأر من أي معارض لم تستطع الحكومة تدجينه أو استمالته، على غرار ما حدث مع الكاتب أحمد الزعبي، الذي حكم بالسجن سنة لأسباب مهنيّة. وثمة غيره من المحكومين لأسبابٍ مماثلة، وأضعافهم ممّن سيحكمون مستقبلاً بسبب حزمة هذه القوانين الخانقة التي وصفها أحد الخبراء بأنها "زحمة تشريعات" طاردة حتى للمستثمرين الأجانب الذين باتوا يتخوّفون من عدم استقرار البيئة التشريعية في الأردن.

هل استكثرت الحكومة على شعبها هذا المنفى الذي وجدوا فيه "ملاذاً آمناً" يتيح لهم التنفيس عن همومهم، وضيق معاشهم، وهم يطاردون لقمة الخبز، ويعملون في أكثر من وظيفة لتأمين كفافهم، والأهمّ لممارسة بعضٍ من حرّية التعبير التي حُرموا منها عقوداً طويلة؟ أما كان حريّاً بها أن تدع لهم هذا الملاذ بدل إعادتهم إلى واقع مُجدب يهرُبون منه، ويحاولون تناسيه ولو ساعة أو ساعتين في اليوم؟ هل يخيفها أن يتسلل "أبناؤها" إلى المواقع الإلكترونية لمعارضي الخارج، مثلاً، وسماع تسريبات وأخبار أو آراء عمّا يحدث في الداخل؟ ألا يندرج ذلك في نطاق "حرّية التعبير" التي تزعم الحكومة صونها وحمايتها؟ وماذا لو كانت تسريبات مضلّلة أو مغشوشة... ألا تثق بقدرة الأردنيّ على الفرز، والتفريق بين الصائب والخائب؟ إن كانت لا تثق فتلك معضلتها من الألف إلى الياء؛ لأنّ المواطن الجاهل من صُنعها هي، وعليها أن تصوّب الخطأ التاريخي بإعادة التأهيل، وبمزيد من الحرّيات، لا باختيار أقصر طرق التربية، كالحجب، والمنع، والسجن، لأنّها أساليب تزيد من فجوة الثقة بين الطرفين، وتجعل المواطن أزيد رغبة في مشاهدة "الممنوعات" وسماعها، وسيكون أشدّ تصديقاً لما يسمع من فيديوهات الخارج. وعليها أن تدرك، كذلك، أنّ "الذباب الإلكتروني"، إن جاز التعبير، الذي يقضّ مضاجعها، ويصدّع رأسها، لم يفعل ذلك لولا "أكوام النفايات" التي تسبّبت بها هي وأخواتها من الحكومات السابقات، بفضل "فضلات" سوء التخطيط، والخطايا المتراكمة، وأقلّها التغوّل على الحرّيات، التي لولاها لما هاجر "الذباب" إلى الخارج، وزاول طنينه هناك، أي أنّ معارضي الخارج معضلتها هي أيضاً.

ولعلّ من مفارقة الطرائف هنا أنّ الحكومة التي تحاول استعادة لاجئيها من المنفى الإلكتروني، هي ذاتها التي تولول من أعباء اللاجئين السوريين الذين يربو عددهم على 670 ألفاً، في الفترة الأخيرة، وتنادي إلى عقد المؤتمرات الدولية، ويسافر مسؤولوها في العالم يطلبون الدعم والمساعدة لتحمّل هذه الأعباء، فكيف ستتعامل مع عودة ستة ملايين ونيّف آخرين إلى ديارها؟ والأهمّ، بالنسبة لها، أنّ عودة هؤلاء ستكون دائمة. أو ربما لم يدر في خلدها، وهذا هو الأخطر، أنّ لاجئيها سيعودون إلى "أرض الواقع"، إلى حيث الكبت، مجرّدين من آخر معاقل حرّياتهم التي كانوا يتنفسون منها. وعلى الحكومة، عندها، ألّا تُصدم بأيّ رد فعل من هؤلاء "اللاجئين" الذين اعتادوا على الحرّية، ولو بشكلها الإلكتروني الافتراضي، فقد رأوا من خلال "النوافذ" كلّ شيء، ولن يرضوا بأقلّ مما رأوه هناك، وليس صعباً عليهم أن يحيلوا الافتراض إلى واقع، ولو بأساليب لن ترضى عنها الحكومة، وعندها ربما تمنّت لو أنّ لاجئيها ظلوا في المنفى الإلكتروني إلى الأبد.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.