الضحك مع "موت ستالين"

الضحك مع "موت ستالين"

20 ابريل 2018
+ الخط -
كذبت وزارة الثقافة الروسية في ادّعائها أنها منعت عرض الفيلم البريطاني (والمتعدّد الإنتاج)، "موت ستالين"، لأنه يهين الروس، ويسيء لتصدّيهم للنازية. ببساطةٍ، لأن الفيلم لا ينشغل بأيًّ من الأمرين. ولمّا كانت الوزارة قد أجازت عرض الفيلم ثم تراجعت، فذلك يعني أنها استجابت للفزعة الشعبوية التي ضجّت في روسيا ضد هذا العمل السينمائي، سيما وأن البرلمان انشغل بأمره أيضا (قرأت أنه صوّت مع منع الفيلم ولست متأكّدا)، كما أن مرشّحين في الانتخابات الرئاسية شاركوا بهمّة في لعن الفيلم. وجاء ذلك كله شاهدا جديدا على تمكّن النزوع القومي المكابر في روسيا، في طورها البوتيني الراهن، وهو نزوعٌ يستمد بعض مادّته من "مجد" الاتحاد السوفياتي الغابر. وكان في محله توبيخ رئيس الحزب الديمقراطي الليبرالي، فلاديمير جيرينوفسكي (معجب بهتلر!)، أعضاء البرلمان، لحملتهم على "موت ستالين"، وقد ذكّرهم بأن المنع هو ما سيجعل الروس يشاهدون الفيلم، في الإنترنت مثلا، وأنه أول من سيشاهده. 

فيلمٌ عن توحش السلطة. اختار مخرجه، الأسكتلندي الإيطالي آرماندو بانوتشي، خيطا من السخرية والكوميديا (لا أظنها السوداء)، من الهزل والضحك، ناظما أساسيا لتتابع وقائعه، وإنْ بدا، في مقاطعه الأخيرة، على شيءٍ من الجد، والكآبة ربما. وبذلك جاء الفيلم ممتعا، تُشاهده بفرح، فيما هو عن ستالين ثم موته ثم صراع رفاقه على وراثة السلطة بعده، عن إعداماتٍ بلا عددٍ في الأثناء مثلا، أي أنه عن الغِلظة والخشونة والتمويت والدسائس، وهذه أسبابٌ للتطيّر والتجّهم، ولإشاعةِ سويداء في الجوانح. وفي مقلبٍ آخر، يستدعي الحكي عنها مقاديرَ وازنةً من الوفاء للتاريخ والحقيقة، وللأمانة في "تشخيص" ما كان يحدث في ذروة السلطة عند موت الزعيم الذي لا يبعث اسمُه على غير الارتجاف والتعوّذ من الشيطان الرجيم، ستالين وليس غيره، الاسم الذي تُحال إليه الحصص الأعلى من القهر والاستبداد والفتك لدى أي سلطةٍ متجبّرةٍ، من قبيل الأسدية والصدّامية مثليْن.
يُخبرك هذا الفيلم، الجميل حقا، بتوقيع مخرجِه الذي شارك في كتابته، وأداء الممثلين الرفيع فيه، وحذاقة فريق تصويره، أن في وسع الملهاة أن تسرد المأساة. أو بكلامٍ آخرَ أخفّ تعالما، أن الكوميديا تقدر على حمل أثقل مضامين الدراما، ولو كانت عن القسوة وتنويعاتِها، أو عن الخوف المهول من ستالين، ولو كانت عن شخصٍ مرعب، اسمُه بيريا، قاتل مئات آلاف البشر، والذي فاضت جرائمُه إلى خارج الاتحاد السوفياتي، وكان رئيسَ الشرطة السّرية إبّان ستالين، ثم شهورا بعد موت الأخير يصوّب أحد رفاقه عليه طلقات مسدّس، ثم يحرق جثّته. هذه وقائعُ معلومةٌ في تاريخ الاتحاد السوفياتي قبل موت ستالين في العام 1953 وبُعيْده. وتشاهدها في فيلم بانوتشي الذي تنشدّ عيناك وأفهامك، وأنت تراه، إلى الفكاهة والمفارقات المضحكة في مقاطعه المتتالية، إلى الموحَى به في الهزء الذي فيه من شخصياتٍ في تاريخ روسيا السوفياتية، بعضُها مثقلٌ بأرطالٍ من التبجيل. ويكشف منع الفيلم، بعد عقودٍ من غيابها، أنه ما زالت الحاجةُ هناك إلى أن يُخلع عليها تقديرٌ غزير، لما لذلك من ضرورةٍ للنرجسية القومية المنفوخة.
ليس حدث موت ستالين بالنسبة لرفاقه في قيادة الدولة والحزب الشيوعي خبرا محزنا، وإنما هو حدثٌ تنبعث منه حزمةٌ من الوقائع ذات المفارقات التي جعلها الفيلم السينمائي تتوازى مع احتيال هؤلاء على بعضهم، والصراع المكتوم والظاهر بينهم، والذي يصل إلى ذروته في الإجهاز على بيريا، وحسم خروتشوف السلطة لنفسه، بعد تنحية مالينكوف الذي أدّى دورَه الممثل جيفري تامبور بكفاءةٍ عالية، من حيث تظهير الضعف الشديد والسمت الهزلي في شخصه. وفي نحو ساعتين من التتابع الكاريكاتوري للحوادث، بدءا من طلب ستالين، عشية وفاته، تسجيلا لحفل أوركسترا انتهى للتو من دون تسجيل، ما يستدعي إعادة فرقة الحفل ومشاهديه إلى القاعة لإعادته. الخوف في المشهد الافتتاحي هو الجوهري، كما هو في مشاهد تتالت بإيقاعٍ متقن. إنه الخوف من كل سلطةٍ في تلك البلاد في تلك الغضون، ومن كل حواشيها أيضا. وأظنه تقديمُ هذا الخوف، بتنويعاته، موصولا مع الضحك، هو المنطوق الجمالي، السينمائي الرهيف، لفيلم "موت ستالين".

دلالات

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.