الزحف الهادئ للشعبوية في تونس

28 فبراير 2022
+ الخط -

لم يواجه الرئيس التونسي، قيس سعيّد، أي مقاومة ذات دلالة لانقلابه المدني، وظلّ يتقدّم بخطى حثيثة نحو "مشروعه" الذي طالما حلم به، وبشّر به حوارييه من طلبته وأتباعه منذ كان مدرّسا في الجامعة التونسية. تفيد شهادات عديدين من زملائه وطلابه بأنه كان يغرّد خارج السرب. له مواقفه الخاصة، حتى من بعض ثوابت القانون الدستوري، وما تعارف عليه أهل الاختصاص.
لم يكن للرجل إنتاجات علمية تُذكر، ولكن كان له مواقف "غريبة " مما كان فطاحلة القانون الدستوري يدرسون، كان يعبر عنها في لغة إنشائية ورطن يجلب إليه الانتباه. وراء بلاغة اللغة تلك، تختفي هناتٌ فكرية عديدة أعاقته عن بلورة أطروحات ما، على غرار الزعماء الكبار الذين كتبوا، وكان عديدون منهم لا يرغبون، ربما،  في أن يكتبوا أصلا.
يكرّر الرئيس إن له فكرا جديدا، وكلما ذكر مُفهوم أو رأي ينعته بأنه من مسائل "تجاوزتها الأحداث وعفا عليها الزمن". وفي زيارته أخيرا بروكسل، حيث حضر القمة الأوروبية الأفريقية، حرص على أن يظهر بمظهر الزعيم المنظّر، فقد ردّد بعض المفاهيم، وتساءل عن أخرى. وفي أمره هذا، يذكّر بمعمّر القذافي الذي لا تنسى الأجيال التي أدركته ولعه بالمصطلحات والاستعارات واللعب بالكلمات، غير أن العقيد، صاحب "النظرية الثالثة" كتب "الكتاب الأخضر"، وترك لحوارييه تفسيره للشعب الليبي. أما الرئيس التونسي الذي يلح دوما على أن له فكرا جديدا، فقد أحجم عن صياغة فكره هذا في كتاب . ولا يعثر الباحث الجاد إلا عن مقالات عديدة في مواضيع مشتتة، كتبها الرئيس في ملتقيات ثقافية، لا نعتقد أنها خضعت لأي تحكيم. ومع ذلك، ظلت محدودة في مسائل تنتمي إلى القانون الدستوري. والحال أن أي نظريةٍ مدعوة إلى أن تجيب عن مسائل عديدة ومركبة، على غرار الاقتصاد والتربية والتعليم والثقافة.

أبانت مواقف سعيّد المتعدّدة أنه لم يعمد إلى انقلابه المدني على قاعدة مواجهة الخطر الداهم، وإنما على قاعدة التمكين لمشروعه الهلامي

ومع غياب أي أثر مكتوب لرؤية الرئيس للوضع الحالي والصور التي يرغب أن يقلب التونسيين فيها، فان له جملة من القناعات الصلبة، على غرار عدم إيمانه بالديمقراطية التمثيلية وكرهه الأحزاب ونظرته المحافظة للسيادة الوطنية ومعاداته رساميل المال وميله إلى الزهد . 
يصدر ذلك كله، والحال أن ثقافة الرئيس المالية ضعيفة جدا، حتى بدا خصما للأرقام، علاوة على عدم ارتياحه للأثرياء، وأنه "كلما اشتمّ عن أحد رائحة الثراء تجنب الجلوس بحدوه". وقد أبانت مواقفه المتعدّدة هذه أنه لم يعمد إلى انقلابه المدني على قاعدة مواجهة الخطر الداهم، وإنما على قاعدة التمكين لمشروعه الهلامي: الديمقراطية القاعدية المباشرة، ونسف ما شيدته مرحلة الانتقال الديمقراطي. ولذلك بدأ بتعليق الدستور، وما أن استتب له الأمن، حتى سلخه في انتظار دستور آخر جديد، قد يكون نتيجة الاستفتاء الذي أعلن عنه. ثم واصل جرف كل ما يعيق تقدّمه لتجسيد مشروعه، متبعا الأسلوب نفسه، شيطنة  كل من يراه سببا يحول دون بسط هيمنته المطلقة، ولكن بشكل تدريجي.
يبدأ الرئيس باتهام أي جهةٍ يتوقع أنها ستعارضه بالفساد، تتولى الشبكات الاجتماعية للتواصل والإعلام تسلم قصب السباق عنه، ثم يتدخل، من خلال التلفزة العمومية، للتلميح باتخاذ إجراءات حاسمة لوضع حد "للفساد والعبث بالدولة". ثم يمرّر القانون الذي يشاء، خصوصا وهو الآن يملك السلطة التشريعية أيضا. تدار البلاد بالمراسيم التي لا يمكن الطعن فيها. حل المجلس الأعلى للقضاء، وألغى الهيئة المؤقتة للنظر في دستورية القوانين والهيئة الوطنية لمكافحة الفساد. وبعد أيام، سيصدر قانونا جديدا خاصا بالجمعيات والأحزاب. 

ستكون نتائج الاستفتاء التي ظلت مخيبة محدّدة في الطريقة التي سيحدّدها قيس سعيّد في توجيه الجرّافة

جرّافة الرئيس تمرّ، من دون أن تستثني شيئا مما ينتمي إلى ما عادت تسمّى زورا عشرية سوداء. لا أحد يواجهها، وهي تمرّ بطريق واسع، بل لا أحد يقترب منها سوى نفر قليل، ما زال يكابد في توسيع طيفه. عندما انطلق "مواطنون ضد الانقلاب"، كانوا متفائلين، يأملون أن تتسع دائرة معارضة قيس سعيّد، وتتحد لبناء جبهة واسعة، من أجل وضع حدٍّ لكل هذا العبث بالدولة، غير أنه، وبعد مرور ما يقارب سبعة أشهر، لم تولد هذه الجبهة، على الرغم من الأخطاء الكبيرة التي ارتكبها سعيّد، وتوسع معارضة مساره العبثي. إنه يراهن على حالة التنافي الوحيد ين الإسلاميين وخصومهم، من أجل أن يظل الطريق السيارة مفتوحة أمام جرافته. إنه عصر الزحف الذي عاشته ليبيا.
ومع ذلك، ستكون نتائج الاستفتاء التي ظلت مخيبة محدّدة في الطريقة التي سيحدّدها قيس سعيّد في توجيه الجرّافة، أو إعادة قيادتها على نحو آخر، يبدو أن الرئيس أكثر اقتناعا بأنه يحتاج إلى شريك ما، قد يجده في الاتحاد العام التونسي للشغل. .. وكل شيء وارد.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.