أخطاء قيس سعيّد القاتلة

أخطاء قيس سعيّد القاتلة

19 سبتمبر 2021
+ الخط -

بعد مرور 50 يوما على إعلان الرئيس التونسي، قيس سعيّد، "الإجراءات الاستثنائية" في 25 يوليو/تموز الماضي، والتي أدخلت البلاد "زمن الإشعار الآخر"، ما زال الوضع العام يراوح مكانه، حيث توقف الرجل في مفترق طرق، متردّدا في تحديد أولوياته، ومرتبكا بين توجهاتٍ غالبا ما يعلن عنها "على قارعة الطريق" أمام تجمّع جماهيري، غالبا ما يسعى الرئيس إليه بغرض التسويق والبروباغندا الشعبوية. وهو يبدو اليوم واقعا في دوّامة إحراج، ولعله قد أصبح مدركا، ولو بعد حين، أن مجمل خطواته المقبلة محفوفة بألغام ومخاطر، وقد تنسف مستقبله السياسي في صورة فشلها.

لقد بات واضحا أن سعيّد لم يعد قادرا على المضي خطوة واحدة في اتجاه ما كان يسعى إليه من استفتاء شعبي وانتخابات مبكرة وتغيير هندسة الحكم لتوفير آليات استدامة الرئاسة وشروطها، أو نسف كامل مكونات الطبقة السياسية في الحكم والمعارضة السابقة لـ"25 يوليو"، علاوة على تهميش كل الائتلاف الاجتماعي من منظمات وطنية وجمعيات المجتمع المدني ومجمل مؤسسات ووسائل الإعلام الوطنية، عمومية وخاصة.

أوقع سعيّد نفسه في مأزق لم يكن يتوقعه، أفقده القدرة على الإمساك بلحظة المبادرة، والشروع في تحديد أولوياته

وإذا كان سعيّد قد سبق أن حسم أمره باستحالة العودة إلى الوراء، فإن المضي إلى الأمام في اتجاه مسعاه أصبح اليوم مشروطا بتوفّر إجراءات طمأنة الرأي العام والجمهور السياسي والمجتمع المدني والدولي، بضرورة استعادة اللحظة الديمقراطية أولا، والذهاب بعدها إلى ترتيباته الجديدة. أمر يكون قد أوقع سعيّد في مأزق لم يكن يتوقعه، أفقده القدرة على الإمساك بلحظة المبادرة، والشروع في تحديد أولوياته، بتعيين رئيس حكومة أو وزير أول، وتشكيل حكومة جديدة، وضبط خريطة طريق واضحة المعالم ومحفّزة للجميع والشروع في بداية الإصلاحات الموعودة، خصوصا محاربة الفساد.

لكنّ تردّد سعيّد وطول انتظار لحظة الفعل واستعمال مشهدية المداهمات، والتوسع فيما أطلق عليه "اعتباطية الإقامة الجبرية والمنع من السفر"، مع غياب حكومةٍ تتصدّى للعاجل، وتخطط لمجابهة الاستحقاقات المقبلة، وتضارب التصريحات غير المدروسة لتعليق دستور 2014 أو تعديله، أوقعت الجميع في حيرة وقلق، بل ووضعت نيات سعيّد موضع تساؤل بشأن حقيقة ما أقدم عليه يوم 25 يوليو/ تموز، وما تبع ذلك من تداعيات. وفي هذا السياق، لم تتردّد مجموعة "محامون لحماية الحقوق والحريات" في اعتبار أن ما حدث في تونس في ذلك اليوم هو "انقلابٌ على الدستور، صاحبته عدة انتهاكات وخروق دستورية، تضمّنتها قرارات الرئيس المعلن عنها". وذكرت المنسقة الإعلامية للمجموعة، إسلام حمزة، أن رئيس الجمهورية "يصرّ على أنّه يحترم القانون والدستور، لكن الحقيقة غير ذلك، والدليل استحواذه على جميع السلط التي يكرّس الدستور التفريق بينها".

الخوف كلّ الخوف اليوم أن يظل سعيّد مصرّا على المضي، وحيدا، يحمل أخطاءه القاتلة في طريق محفوفة بالمخاطر

وزاد الطين بلة أنّ حالة القلق والانتظار التي وسمت مزاج التونسيين قد تجاوزتهم، لتشمل أهم شركاء تونس السياسيين والاقتصاديين، والذين أجمعوا على ضرورة تجاوز لحظة وقوف سعيّد في مفترق الطرق وإجلاء الغموض والقلق الذي أصبح سمةً عامة للمشهد السياسي والاجتماعي. إذ اختار سعيّد نهج التريّث وتمديد الوقت، فاسحا مجالا لمعارضيه في الداخل والخارج للدعوة إلى التعبئة والتحرّك والنزول إلى الشارع، فقد أطلق سياسيون وحقوقيون ونشطاء من المجتمع المدني حملة واسعة على مواقع التواصل، تحت عنوان "مواطنون ضد الانقلاب" تدعو إلى التظاهر للتعبير عن رفض التدابير الاستثنائية لسعيّد، ومحذّرين من عودة الديكتاتورية إلى البلاد إلى جانب ما أسموها "محاكمة المدنيين في المحاكم العسكرية، ووضع قيود على حرية التنقل والسفر".

وأمام استمرارٍ في الجدل بشأن ضبابية المشهد، وتأخر إعلان رئاسة الجمهورية عن قرارات جديدة، في مقدمتها رئيس الحكومة وتشكيلتها، وهو ملفٌّ يراوح مكانه بين تنبؤات الصفحات في مواقع التواصل الاجتماعي ونفي الرئاسة جاهزية الحكومة المرتقبة رئيسا وفريقا، بات جليّا أن الرجل قد اقترف، من حيث لا يدري، أخطاء قاتلة. فبعد تأكيده المستمر أن الرجوع إلى الوراء غير مسموح به، فإنّ المرور إلى الأمام، في المقابل، ما زال معطّلا، إن لم يصبح مستحيلا، لأسبابٍ لا أحد يعرف حقيقتها. وبذلك، يتضح أن أول أخطاء سعيّد يكمن في أنه لم يقدّر قيمة الوقت، ولم يبادر باتخاذ قراراته الهامة خلال الأيام الأولى التي تلت 25 يوليو/ تموز الماضي. أما الخطأ القاتل الثاني لسعيّد فهو عدم وضوح برنامجه لما بعد "25 يوليو" ليسقط في الأدبيات الدستورية المجرّدة ومأزق تأويلها. ويظل ضعف الأداء العام لفريق سعيّد، على مستوى الاتصال ومضامينه، خطأ قاتلا ثالثا. ومثال ذلك ما أعلن عنه، قبل أيام، أحد مستشاري الرئاسة عن عزم الرئيس تعليق دستور 2014 الذي أثار جدالاً حاداً جعل الرئيس يُسرع في نفي ما جاء على لسان المستشار، معلناً إمكانية تعديل الدستور، وهو أمر لا يستقيم كذلك في ظل تجميد اختصاصات المجلس النيابي وغياب المحكمة الدستورية.

المطلوب اليوم، من دون تأخير، المرور فوراً نحو خطوات عملية وإجراءات ملموسة، تبدأ بتعيين رئيس حكومة

والواضح أنّ هذا البيان، ومجمل البيانات والتصريحات الرئاسية التي سبقته، قد عمّقت المخاوف وضخّمت الريبة في إمكانات الخروج من نفق الأزمة، وأكدت الاعتقاد أنّ سعيّد ماضٍ في اقتراف أخطاء تزداد حدّة وخطورة، بإصراره على رفض الحوار وإشراك "الآخر"، في بلورة شكل المسار الذي يريده وتردّده في الحسم بين خيارين متناقضين: الإصرار على تجسيد مشروعه النظري، غير عابئ بالانتقادات الداخلية والخارجية، أو التقدّم بثبات معتمدا على كفاءاتٍ مستقلةٍ جرّبت فصحّت بعيداً عن منطق الولاءات، والتوقّي من هوس الخيانات ونظرية المؤامرة. والخوف كلّ الخوف اليوم أن يظل سعيّد مصرّا على المضي، وحيدا، يحمل أخطاءه القاتلة في طريق محفوفة بالمخاطر، والقفز نحو المجهول وتعريض البلاد لهزّات مالية واقتصادية واجتماعية، لا قبل له بها...

والمطلوب اليوم، من دون تأخير، المرور فورا نحو خطوات عملية وإجراءات ملموسة، تبدأ بتعيين رئيس حكومة، والفريق الذي سيعمل معه، والتوجه مباشرة نحو الملف الاقتصادي والمستعجل جدا، فيما يتعلق خصوصا بقانون المالية التعديلي لسنة 2021 وقانون المالية لسنة 2022، والإسراع في فتح ملفات الفساد، وإحالة من ثبت تورّطه على القضاء، ثم مباشرة ملف الإصلاح السياسي، والنظر في مصير البرلمان وسبل تعديل الدستور، وإن لزم الأمر ملف الانتخابات السابقة لأوانها، وما يروج عن استفتاء شعبي. ومن دون ذلك، سيظلّ سعيّد سائراً على غير هدى.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي