سميح شقير:إن عشتَ فعش حراً

سميح شقير:إن عشتَ فعش حراً

03 ابريل 2015
الفنان سميح شقير وفرقته (العربي الجديد)
+ الخط -
بين "لمن أغني" و"يا حيف" طريق لم تزل تسير في قلوب متعبة مظلومة، طريق لم تزل تضيء هذا الوجع، وتغنيه، تكتبه كما كتبتنا بلادنا نصاً بلا أصابع. وما دمنا أيضاً في زمن بلا عيون، وبلا روح، يُتهم هذا الصوت بالعمالة، لأنّه كان سباقاً في توثيق أوجاع درعا، أوجاع كل سوري، ولأنّه كعادته لم يخف، لم يتردد ولم ينتظر، فقط كان على صوته أن يقول، وقال، ليتحول إلى أيقونة الثورة بكل مدنها. وليس هذا فقط، بل يُنسى كل ماضيه الثوري، ويعلنه الديكتاتور صوتاً ممنوعاً وقاتلاً لكل من يحمله على جوّاله.

لكن هذا الصوت استمر إلى أبعد من سياط تعذيبهم، وبدأ يكبر في كل زنزانة. ولأنّه وقف مع العدل وإنسانية الإنسان، أصبح منفياً عن بلاده بسبب نظام لا يقبل حتى الأغنية. ولأنّه لم يسكت عن أي تصرف غير إنساني، حتى لو كان من جهة المعارضة، أصبح مهمشاً من التيارات شديدة التعصب في الثورة ذاتها، التيارات التي تحمل في داخل أيديولوجياتها نفس آلية التفكير الدكتاتورية.

ربما وقوفاً مع ما تمثله تجربة سميح شقير كحالة فكرية، وربما هو رد لما تركته هذه التجربة وغيرها في بناء وجداننا وذاكرتنا، لهذا السبب، الحديث عن سميح شقير يطول منذ بدايته حتى هذا اليوم. "وأغنّي هارباً من التابوت وأغنّي كي لا أموت"... بهذه الكلمات قدّم سميح شقير نفسه في أول حفلة له في دمشق في العام 1983، هارباً من تابوت الصمت وواضعاً نفسه وصوته وأرواحنا على التحدي الأكبر.

تحدي أن تعيش مختاراً من اللحظة الأولى الطريق الوعرة هذه، حين تقف وحدك لتقاتل الظلم في كل أشكاله، ولتقاتل الإسفاف والابتذال، ولتحاول أن تقدّم فنّاً يحاكي عمق ما نعيش ويلتزم بملامحنا الحقيقية حين نحب، وحين نحلم، وحين نقاوم قهرنا، وحين نقاتل قاهرنا، وحين نعود لأنفسنا متعبين وسالمين. "عائد من حيث لم أذهب، في دمي اغترب الرصاص عن البنادق، نحو قلبي". ابتدأت التجربة مع شريطه الأول (لمن أغني) الذي أثبت فيه أنه صوت حي وعميق يمتلك رؤيا قادرة على البقاء طالما بقي الإنسان.

مضت هذه التجربة في طريقها لتكمل ملامحها ولتقترب أكثر منا، ولتقدم "بيدي القيثارة" في العام 1984، ثم "حناجركم" في العام 1985، ثم "وقع خطانا" في العام 1987، ليأتي شريط "زهر الرمان" في العام 1990، وليبدأ فيها سميح بتشكيل هوية لتجربته، ولتأخذ انتشاراً واسعاً ليس عن طريق الإعلام الذي حارب التجربة كلها، وإنّما عن طريق الأشخاص الذين حاكت أرواحهم، فبدأوا بنقلها لآخرين لهم نفس الروح كما تنتقل الرواية والقصيدة ذات الأجنحة.


منذ اللحظة الأولى، تصدى بصوته وعوده للظلم أينما كان، وكيفما كان. غنّى للفقراء رماد حرائق هذا العالم، للقضية الفلسطينية كما لم يغنِ لها أحد من قبل ولا من بعد، لوجعها، لتحديها، لأسراها، للخذلان الذي تعرضت له من كل الجهات، للمجازر، لرحيل الفلسطينيين عن بيروت، وبشّر بالانتفاضة الفلسطينية قبل أن تقوم، لحصار الفلسطينيين في بيروت:
"رمانة طيارات ترمي الموت غضبانة علينا ترمي والعون ما جانا، ردينا يللي بينرد، وقابلنا المدفع بالفرد، اشهدي يا بيروت علينا"، وليصبح بعدها سميح شقير، ككوفية الفلسطيني، رمزاً في قلب كل عربي حر.

غنّى سميح شقير للجولان، الجرح السوري الأعمق، وأسكن الجولان السوري روحه وكلماته، ووقف لأكثر من عشرين عاماً كشجرة في بلدة عين التينة يغني للجولانين في يوم الجلاء: "بين وبين أهلي وناسي رمية حجر، جمحة فرس، خطوه فوق شريط، وخطوه فوق خوذات الحرس، بين وبين أهلي وناسي". غنّى للبلاد التي لا تحمل أهلها، وتجبرهم على الرحيل، للغربة، ونزيف الحنين فيها، غنّى للأكراد ولحقهم بالحياة المتساوية العادلة: "غنّي يا شيفان غنّي، للذي سوف يجيء، وأطلق الشعلة في العيد الجريء، كلنا في اللهفات سواء، ولنا نفس الطريق".

غنّى سميح لمعتقلي الرأي في كل مكان، لزنازينهم، لرائحتهم على جدرانها، للحرية التي تليق بهم كنسر، وفضح الدكتاتوريات التي تسجن الرأي الحر فيهم، وتنتج من عذابهم إيديولوجيا الرعب. غنّى لغرفنا الصغيرة التي جمعت الشباب وقلوبهم ووحدت همهم: "لما رجعت وقالولي أخذوه العسكر، صادوعصفور بقلبي وجناحو تكسّر، سقطت دمعة من عيوني مش رح تتسكر، هالغرفة صغيرة وحنونة".

أما الحب، الحب الحقيقي والعميق، فقد عاش في كل نص، وكبر في أجملها، وأحب وعشق وأنجب أغاني عيونها من شعر وقاماتها من موسيقى، أغنيات وأغان ستعيش وتعشق هي أيضاً، وتنجب أكثر. ألّف سميح الشاعر الكثير من كلمات أغنياته، لكنه أيضاً غنّى لكثير من الشعراء كغسان زقطان، وحسان عزت، لكن الأكثر كان لدرويش، حين قدّم ألبوماً مذهلاً بعنوان "قيثارتان"، وكانت كل كلمات أغانيه قصائد لدرويش وألحان وغناء سميح، مختاراً أجمل قصائد درويش ومقدماً إياها بروح درويشية ساحرة.

لكنّه وبعد الثورة مباشرة، وكعادته، حمّل نفسه وأغانيه مسؤولية تعرية الظلم والظالم، لذا كان الصوت الأول الذي صرخ "يا حيف" على قتل شباب درعا، على قتل البلد كلها في عيونهم.
سميح صديق الشباب وحريتهم، صديق أوجاعهم، صديق عشقهم، وغرفهم، يعيش في صوتهم وسيورق في عيونهم.

سيكون في وطن العدل والمواطنة والحرية الفكرية والدينية، وسيكون في ما ترك الشهداء من أحلام يتيمة. لن يكون في مقالٍ مسفٍ في جريدة عابرة. ولن يكون إلاّ كما غنّى: "لو رحل صوتي ما بترحل حناجركم/عيوني على بكرى وقلبي معكن/ لو راح المغني بتظل الأغاني". ولن يقول لنا يوماً إلاّ: "إن عشت فعش حراً أو مت كالأشجار وقوفاً".

المساهمون