أسواق بيروت.. شاهد على تاريخ

أسواق بيروت.. شاهد على تاريخ

01 ابريل 2015
+ الخط -
توجه حسن بالترامواي من منطقة البربير إلى الأسواق التجارية لمدينة بيروت طوال سنوات المدرسة والجامعة، قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975. شكلت منطقة الأسواق التجارية وجهة النزهة الأسبوعية لحسن وزملائه لحضور الأفلام السينمائية في صالاتها في خمسينيات القرن الماضي، قبل التوجه إلى الأسواق "للفرجة والشراء".

يذكر حسن الأسواق "التي شكلت محطة إلزامية يومي الجمعة والأحد لتناول الطعام من أحد بسطات الطعام المنتشرة في ساحة البرج، قبل شراء التذاكر لحضور الأفلام. كنا نختار فترات العرض الأرخص، فنشتري البطاقة بستين قرشاً بدل مائة وعشرة قروش".

لا بد أن يكون حسن قد التقى بأبو إبراهيم عند بسطات الفلافل والبيض المسلوق والبطاطا المقلية في البرج. رافق أبو إبراهيم جده منذ عام 1945 وحتى 1970 في بيع الفلافل على عربة "كان جدي يفرد أصناف الكبيس في مقدمتها ليتسلى الزبون بانتظار السندويش قبل أن يقصد الأسواق للتبضع".

"من البابوج إلى الطربوش"
يتحدث المؤرخ الدكتور حسان حلاق عن أسواق بيروت بوصفها "المحطة المركزية لنشاطات مدينة بيروت الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والدينية والصحافية".
وقد واكبت هذه الأسواق التغيرات الكبرى التي مرت بها بيروت وتحولها من مدينة عثمانية ذات أسوار، إلى عقدة تجارية خلال الانتداب الفرنسي، ثم مسرحاً لمعارك الحرب الأهلية اللبنانية.

يؤكد حلاق أن بيروت "ورثت هذه الأسواق عن العثمانيين، قبل أن تشهد النهضة النوعية منذ الاستقلال عام 1943 وحتى 1975 تاريخ اندلاع الحرب الأهلية". قصد أهل بيروت وزوارها العرب والأجانب أسواق المدينة لشراء "كل شيء" كما يقول حلاق. تنوعت الأسواق بين التجارية والصناعية، وساهم قربها من مرفأ بيروت في توافر كافة أصناف الطعام والملبس والحاجيات فيها، "وهو الأمر الذي انعكس من خلال التسميات التي حملتها الأسواق من الحرير، الأجواخ، القطن، الحدادين، الخياطين، السمك، اللحم، القطايف، الخضار". كما حملت بعض الأسواق أسماء المنطقة التي أقيمت فيها كـ "باب إدريس"، "الطويلة، أياس، و "الأروام".


وشهدت هذه الأسواق زحمة تجارية دائمة، "كانت تتضاعف في موسم الأعياد الإسلامية والمسيحية، وساهم انتشار دور العبادة قرب الأسواق وبينها، في تعزيز روحية العيد داخل هذه الأسواق، من خلال الزينة والمدائح أو الترانيم التي كانت ترافق المتسوقين".

اقرأ أيضا:
شمس بيروت الحزينة

كما رافق نشاط الأسواق الواسع رقابة فرضتها السلطات العثمانية من خلال استحداث منصب "عمدة التجار المعتبرين" و"شيخ الحرفة" لتنظيم عمل التجار ومراقبة الأسعار وجباية الضرائب". شكل أهل بيروت أغلب التجار، "قبل أن ينضم إليهم تجار عرب قصدوا بيروت بهدف التجارة في أسواقها، وأصبحوا من أهلها كآل الفيومي، الغزاوي، اليافي، الحلبي، المدني" كما يشير حلاق.

شكل هؤلاء إلى جانب عائلات بيروت التجارية كبرغوت، فرعون، الصمدي، صفصوف، والعريس والعريسي الطبقة التجارية للمدينة. وساهم ازدهار الأسواق في انتشار مرافق عامة محيطة بها من مقاهٍ ومطاعم كقهوة "القزاز" (الزجاج) التي افتتحت في عهد العثمانيين، وجاورتها بعد عقود مقهى "لاروندا".

يتحدث حلاق عن أدوار غير تقليدية لعبتها الأسواق في "نهضة المسرح اللبناني مع الفنان شوشو الذي قدم أعماله في مسارح الأسواق، وغناء الفنانين الكبار كمحمد عبد الوهاب وأم كلثوم في مسرح "التياتر الكبير"، وصدور الصحف اللبنانية الأولى في الأسواق وقربها كحديقة الأخبار والنهار. كما افتتحت أولى مدارس بيروت في منطقة الأسواق، وأشرفت عليها جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية".

الحرب الأهلية

شكلت الحرب الأهلية اللبنانية نقطة تحول كبرى في حياة أبو إبراهيم وحسن وكافة مرتادي وتجار الأسواق التجارية في بيروت. فحوّلت الحرب منطقة الأسواق خلال خمسة عشر عاماً إلى حفرة هائلة من الردم والركام، استوطنتها الكلاب التي أكلت جثث المقاتلين، والجرذان التي روى أهالي بيروت أساطير عن أحجامها الهائلة التي وصلت إليها.

انتهت الحرب وبدأت مرحلة إعادة الإعمار، فحملت المنطقة التي كانت تعرف سابقاً بـ"البلد" وتضم الأسواق والمرفأ وجزءاً أساسياً من تاريخ بيروت الثقافي والديني اسم "وسط بيروت".

هي تسمية سياسية غلفت مرحلة إعادة الإعمار التي قادها الرئيس الراحل رفيق الحريري، وتولت تنفيذها شركة "سوليدير" التي تحتكر إعادة إعمار وتنظيم "وسط بيروت". اختفت الأسواق والتجار، طمرت بعض الآثار، وأغلق عدد من المقابر الإسلامية المنتشرة في المنطقة، وحلت محلها لافتات المتاجر الكبرى.

وقامت "سوليدير" بنقل ساحة الشهداء من مكانها، إلى جانب تغييرات جذرية بشكل المكان وجغرافيته، بحيث لم تعد منطقة وسط بيروت تشبه ماضيها، من دون أن تكتسب هوية جديدة.

ومن ضمن ما قامت به هذه الشركة، افتتاح "مول" تجاري تحت اسم "أسواق بيروت" في محاولة منها، للقول إنها حافظت على "روح المدينة". ارتدت هذه الأسواق الجديدة حلة عصرية، فنشرت "سوليدير" أعمال نحاتين عالميين يشبه بعضها حجارة "ستونهنج" في بريطانيا مكان بسطات الفلافل، واختفت دكاكين السوق.


اقرأ أيضا:
ابتسامة الصنوبر والبنّ


حافظت بعض الأبنية المستحدثة على طراز عمارة تقليدي وألوان تراثية، وساهم الحفاظ على عدد من الآثار المكتشفة في المنطقة في إعطاء نمط قديم للأسواق الحديثة. وأبقت الشركة على أسماء الأسواق المتفرعة من المسجد العمري الكبير رغم اختفاء الحرف والمهن التي عرفتها هذه المنطقة.

يشير محمد، وهو شاب من بيروت، أنه يكتفي بزيارة الأسواق خلال فترات الحسومات "أو لارتياد السينما التي تعرّف عدد كبير من اللبنانيين على الأسواق من خلالها". أما فرح وهي مصممة "غرافيك" فتستغل وجودها في السينما لتتجول في أروقة الأسواق التي "تملك روحاً خاصة، ويختلف التجول فيها بين الليل والنهار، إذ تمنح الإضاءة المميزة المساحات الواسعة أبعاداً مختلفة، وأكثر ما يشدني الإضاءة المميزة التي تحيط بالآثار".

ارتدت أسواق مدينة بيروت حللاً عثمانية وفرنسية وعربية، قبل أن يصوغها رأس المال اللبناني على صورتها الحالية الحديثة. يصفها أبو إبراهيم فيقول: "الجنة بلا ناس ما بتنداس".

تُشبه الأسواق المتاجر الكبرى المنتشرة في معظم مدن العالم، لكنها بالتأكيد لا تُشبه تاريخ بيروت ولا تملك روحها. فهي ليست محطة تجمع اللبنانيين بمختلف فئاتهم. يلعب شارع الحمراء ومناطق من الأشرفية، بعض هذا الدور. فما دمرته الحرب، أزالته يد الإنسان.

اقرأ أيضا:
ناس سوق الأحد

المساهمون