كان الخبر مفجعاً، على الرغم من أنّي أدرك تماماً أنّ الموت حق على الجميع، لكنّ صباح تمثّل الملايين، وأنا واحد منهم. تمثّل رمزاً لحب الحياة والبقاء والتمتع بها.
أذكر في طفولتي الأولى جدلية طويلة بيني وبين أصدقائي حول الشحرورة. كان الجميع يؤكد أنّ صباح مطربة مصرية. وبعضهم يرجع شكلها المميز ولكنتها الغريبة بعض الشيء إلى أنّ مسقط رأسها هو مدينة الإسكندرية، ومنهم من أشار إلى أنّ أمها ليست مصرية. رفضوا جميعهم تقبّل روايتي التي تؤكّد أنّ "الصبوحة" لبنانيّة الجنسيّة، وقد جاءت إلى مصر كغيرها من الفنانات بحثاً عن الشهرة واحتراف الفن. حيث كانت القاهرة في ذلك الوقت، قبلة الفن العربي وهوليوود الشرق.
كما كنت أعدّد جنسيات الفنانين على مسامعهم علّهم يقتنعون، فاستشهدت بالفنانيْن السوريين فريد الأطرش وأسمهان، ووردة من الجنسيّة الجزائرية، وعزيزة جلال من المغرب، والشحرورة من لبنان. استطعت إقناعهم بكل جنسيات الفنانين باستثناء صباح. كانوا واثقين تماماً أنّها مصرية مثلهم، ولم يشككوا للحظة أنّها قادمة من بلد آخر. بعضهم كان يُعلّل بأغنيتها الشهيرة عن فريقيْ مصر الأشهر في كرة القدم، الأهلي والزمالك، لتأكيد نظريته بأنّها مصريّة الأصل، متسائلاً: "هل يمكن أن يغني مطرب غير مصري لقطبيْ الكرة المصرية بتلك الطريقة"؟
مع مرور الوقت، اكتشفت أنّ أغلبية المصريين يعتقدون أنّ الصبوحة مصرية. وليس هذا فقط، بل يرفضون بشكل قاطع القول إنّها لبنانيّة. ويعود السبب بذلك إلى اندماج صباح مع الشعب المصري، وعشق هذا الأخير لها، فأتى الإصرار على وصفها بالـ "المصرية الخالصة". هي نفسها لم تستغرب الأمر، ربّما حافظت في فترات من حياتها، بل كانت حريصة على أن تبدو مصرية، كما يرغب جمهورها المصري.
بعد تخرجي، تخصصت في الصحافة الفنية، ما أتاح لي مقابلة عدد كبير من الفنانين والنقاد. بعضهم كان قريباً من الشحرورة، عمل معها أو تربطه بها صداقة. وكنت دائماً أسأل عنها. كانت تبهرني تلك الشخصية بشكل كبير، لم يكن يعنيني أبداً الجدل المتواصل حول عمرها، ولا حول زيجاتها المتعددة، ولا رغبتها في الزواج من رجال يصغرونها سنّاً. كنت شغوفاًا بتلك الحالة الفنيّة غير المسبوقة، بتلك المرأة الجميلة الموهوبة، بتلك المسيرة الفنية التي لا تنتهي.
زوجها السابق فادي لبنان مع جوزيف غريب وكلودا عقل والمغنية رلى سعد
كان كل من يعرف الصبوحة عن قرب، يؤكد أنّها شخصية مشرقة مليئة بالحيوية، لا تتأثّر بتقدّم العمر، ولا خيبات الأمل الكثيرة، ولا الظروف المحيطة. كانت دائماً قوية قادرة على تحدي كل الصعاب. تسقط أو تتعثر، فتقوم مجدّداً بحثاً عن فرصة أخرى للنجاح. كانت العيون تلمع كلما تحدث أحد المقربين منها عن مواقف خاصة بها، وكانت رغبتي في الاقتراب منها تزداد مع ازدياد القصص التي أعرفها. شغلتني لفترة فكرة "مصريتها". إذ عاشت في مصر أكثر مما عاشت في لبنان. عملت في مصر أكثر مما عملت في لبنان، وكانت معظم زيجاتها مصريّة. كان هاجس حبها لمصر أكثر من لبنان يطاردني، لكني طرحته بعيداً عن مخيلتي، إذ يبقى الشخص مديناً لمسقط رأسه بالوفاء، حتى وإن لم يعش فيه يوماً.
بات يشغلني لاحقاً حب الجمهور المصري لها، أقترح أسباباً، وأناقش أطروحات ونظريات لتفسير هذا الحب، بعد محاولات عدة، قرّرت أن أشغل نفسي بعملها عوضاً عن البحث عن تبريرات أو أسباب لحب المصريين لها.
كتبت مرات عدة عن صباح من جوانب متعددة، وكلما زادت كتاباتي، كنت أكتشف أنّ تلك الفنانة الكبيرة لم تحصل على ما تستحقه بعد، وأن انشغال البعض بزيجاتها وغيابها عن الساحة، ثم عودتها المفاجئة المتكررة، ولاحقاً أخبار مرضها ووفاتها التي كانت شائعة شبه أسبوعية، كل تلك الأمور شغلت كثيرين عن رصد مسيرة حياة فنانة متميزة، قدّمت للفن أكثر مما قدم غيرها. امراة أعطت الأمل لكثيرين، أنّ الحياة تستمر طالما بقيت الأنفاس ودقات القلوب مستمرة.
كان استمرار قدرة صباح على النجاح في عصر فني يضم عمالقة مثل شادية ووردة ونجاة، وأم كلثوم، أمراً بالنسبة لي غير عادي. كيف قاومت ووصلت وحافظت على مكانتها بين هؤلاء؟ كيف تجاوزت المؤامرات والمشكلات التي قضت على مسيرة فنانين كثيرين؟ كيف استطاعت أن تعبر باب النجومية الذي كان يحتله كل هؤلاء؟
آخر مرة شاهدت الشحرورة، قبل نحو ثلاثة أعوام، كانت ضيفة شرف حفل اختتام مهرجان أوسكار الأغنية المصرية، في قاعة الفندق القاهري المتسعة. كانت الصبوحة قبلة الحفل كله. لا أنسى أبداً ملابسها الحمراء الزاهية، ولا خفّة ظلّها وابتساماتها التي وزّعتها على جميع الحضور. في تلك الليلة التي كانت فيها نجمة فوق العادة، طلبت منها بإلحاح أن تغني لنا. كان منظمو الحفل حرصاء على ألاّ تستجيب. ربّما حرصاً عليها، وعلى صورتها الراسخة في الأذهان، خصوصاً وأنّ مئات الكاميرات وعشرات القنوات الفضائية كانت في المكان في شرف استقبال الصبوحة. إلاّ أنّ كبر سنّها لم يخزلنا، فجأة استجابت للطلب، قرّرت أن تغني، واختفت بقبولها كل الأصوات الرافضة للفكرة، وتكرر استحسان الحاضرين، وتلهفهم لسماعها. وفجأة انطلق صوتها العذب مردداً "ع البساطة البساطة، يا عيني ع البساطة". كانت تحفظ الأغنية جيداً، وتعي تفاصيل ما تفعله تماماً، تكرّر ألفاظاً بعينها، وتشدد على كلمات بعينها، وتبدي دلعاً وغنجاً في كوبليهات محددة، كانت في لحظة وجد وتركيز. هذه هي الصبوحة التي اعتاد على سماعها ورؤية أناقتها وغنجها الجميع، لم تتغيّر.
قالت بعد أن انتهت من الغناء، وبعدما هدأت عاصفة التصفيق "شكرا لكم، كنت عاوزة أغني فعلاً، سعيدة إنكم استمتعتم".
كدت أبكي فرحاً، تلك الفنانة العظيمة تشكرنا لأنّنا استمتعنا بغناءها الجميل، وتتمنى لو أنّنا كنا مستمتعين بغناءها، مثلما استمتعت هي بالغناء لنا. من هذه الشخصية؟ كيف استطاعت على الرغم من كلّ ما مرّت به، أن تحافظ على هذا النقاء الانساني النادر. إنّها حالة خاصة في الحياة، بل إنّها الحياة.. عاشت الصبوحة.. عاشت.
اقرأ أيضاً..
فنانون مصريون: صباح "حبيبة مصر" علمتنا الالتزام والتواضع
وداع راقص!
مطربة تجاوزت النماذج وتخطت الحدود