برنامج "شباب توك": سيرك الكائنات المغلوبة

برنامج "شباب توك": سيرك الكائنات المغلوبة

10 ديسمبر 2016
(عمل لـ آي ويوي من سترات النجاة/دار أوبرا، برلين)
+ الخط -

يجلس جون ماريك بين الطبيب وزوجته، يحتسي الشاي، يطري على ترتيب الصور فوق المدفأة، يتحدث بصعوبة لكنه يتمكن من إيصال كلامه، الصيغة المخبريّة التي يتم فيها مراقبة ميريك وتأهيله بعد أن كان كائن سيرك للفرجة بسبب شكله المشوّه تتلاشى بعد أن تم تأهيله و"دمجه" مع المجتمع وقراءته لشكسبير.

هذا النجاح ما يلبث أن يتلاشى حين ينتقل ميريك إلى شروط مختلفة، الحياة اليومية والفضاء الجماهيري العام؛ حيث يطارده الناس في محطة القطار مدهوشين لشكله وتشوهّه. المشاهد السابقة تحضر في فيلم ديفيد لينش، "الرجل الفيل" (1980). يمكن اعتبار الفيلم تراجيديا، مأساة المختلف حين يتحول إلى مادة للدراسة بوصفه مخالفًا للـ"شكل السائد"، قبل أن يكون مادة للفرجة ضمن عروض الغرائب كحالة ميريك، أو كوميديًا بوصفه تضخيمًا غروتيسكيًا للعيوب الفردية بصورة كاريكاتوريّة، بصورة تسخر من الشكل "المثاليّ" الذيّ يدّعي المجتمع أنه يقدمه عن نفسه.

حالة ميرك السابقة تحضر حاليًا بصورة مغايرة، أشدّ انتشارًا وأكثر إمعانًا في استعراض الأفراد "المغايرين" و"عيوبهم" إن صح تسميتها كذلك؛ إذ إما تروّج للحالة المخبريّة التي يخضعون فيها للـ"تأهيل" في سبيل الاندماج أو حالة استعراض العيوب والمنتمين للهوامش بوصفهم غرائبيين.

هذه الصيغة البصريّة للسيرك نجدها في برنامج "شباب توك" الذي يبث جماهيريًا باللغة العربيّة على قناة "دوتيشي فيلي" DW الألمانية، الذي يدّعي أنه يخاطب قضايا الشباب الحساسة والمحرمات، كالمثلية وتعدد الزوجات، وغيرها مما يصنّف بوصفه "شائكًا".

أول عيوب البرنامج أنه يرسّخ التهميش الذي تخضع له الجماعات التي تقاتل من أجل حريتها كالمثليين والمتحولين والملحدين؛ فهو ظاهرياً يدّعي النقاش وطرح القضية، لكن معيار القضية لا يرتبط بالجدال حولها، بل بمدى "إثارتها" وقدرتها على جعل صفحة البرنامج تخضع للاستهلاك في الفضاء العام.

بالطبع، هذا حق أي قناة بث جماهيري، لكن تحويل هذه الحالات إلى كائنات سيرك، أو مخلوقات فضائية، واستعراضها بوصفها مدعاة للفرجة، هو ما يثير التساؤلات حول أهداف البرنامج؛ فالأداء المتبع بين المذيع وضيوف البرنامج –سواء متفق عليه أو لا- هدفه استعراضي، لا نقدي أو جدلي. هو يطرح القضايا بوصفها غرائبيّة، ويساهم في تكريس الصورة الدونيّة عن المجتمعات الأصلية لتلك "الكائنات/المخلوقات"، ويدّعم موقف أوروبا البيضاء التي تفتح أيديها للمقموعين.

سذاجة الطرح نلاحظها في أن البرنامج لا يدعو الناشطين لتغيير القوانين في بلادهم أو أساليب الحوار والجدل كما في حالات المثلية أو الإلحاد، بل يختار الأمثلة المتطرفة التي "تصنّع" صورهم القناة  في سبيل إبرازهم كضحايا مثاليين، استقبلتهم ألمانيا إثر اختلافهم، ثم تستعرضهم مخبريًا بعد أن تم دمجهم أو أثناؤه، أو ككائنات مسخية يعجز النظام عن احتوائها لـ"عيوب" ثقافية وقيمية يحملونها.

ذات الجدل نراه في الحلقة التي تناولت تعدد الزوجات، وعدم قدرة "النظام" الألماني على تفهّمها والتفسيرات القانونية المختلفة لهذه الحالة، إلى جانب السذاجة التي يضفيها المذيع على ضيفه عبر اختياره أولًا، وعبر تركه للتعبير عن نفسه من وجهة نظر شخصيّة ضحلة غير متماسكة، وكأنّه يتعمد اختيار من يمثّل الصورة النمطيّة وتكثيف كل العيوب بها وتضخيمها بهدف الاستعراض.

هذا الاستعراض يهدف لإشباع لذة الجماهير وحاجاتها الجماهيريّة الآنية، حسّها البربريّ تجاه المختلف، فالبرنامج يعكس ما يسمّيه "صعوبات الحياة" التي يواجهها أولئك الغرائبيون، فكما كان ميرك عرضة للأعين في المخبر الطبيّ وفي السيرك لدراسة وتحليل "عيوبه" ونمذجته، الضيوف عرضة لعيون الجماهيري ومبضع المذيع وضيوفه لتحليل عيوب تلك "العيّنات البشريّة" واستعراضها ومساءلة ملاءمتها للنموذج.

هذه الحالة الكاريكاتوريّة من تضخيم العيوب التي تحوي في داخلها كوميديا تنشأ من صراع منظومتين، تستمد مرجعيتها من الوهم بالتجانس بين جميع اللاجئين والمهاجرين، بتصنيفهم ككتل متشابهة الاتجاهات، وهذا ما تقوم به المؤسسات والمنظمات المسؤولة عنهم، عبر السؤال عن هدف رحيلهم عن بلادهم بالأصل، الاضطهاد الديني، الاضطهاد الجنسي وغيره.

هذه النمذجة يساهم البرنامج بها عبر التنميط بعد "النجاة"، إمّا لانتقاد منظومة القيم التي يحملها اللاجئون من جهة أو لترسيخ منظومة القيم الأوروبيّة من جهة أخرى، وفي الحالتين المؤسسة تنتصر ماديًا وجماهيريًا وسياسيًا.

المساهمون