موسيقى المهرجانات: موجز واقع فن شعبي

موسيقى المهرجانات: موجز واقع فن شعبي

27 ديسمبر 2018
الحاجة المجتمعية أشرفت على نشأة المهرجانات (محمد الشامي/الأناضول)
+ الخط -
في أوائل عام 2007، صعد عمرو حاحا للمسرح وسط تهليل وتصفيق أصدقائه وأبناء حارته، ليرتج الفرح الشعبي عندها باللحن الذي طوره "الدي جي" حاحا بمساعدة صديقه فيجو مستخدماً بعض برامج الكمبيوتر المجانية المخصصة لهذا الغرض، وغنى ليلتها على أنغام لحنه علاء فيفتي، ورقص على إيقاعه سادات العالمي. 

"مهرجان السلام" كان اسم الأغنية التي أطلقها حاحا كأول مهرجان غنائي، منسوباً للمنطقة الشعبية "السلام" التي عمل حاحا في أحد محلات بيع التليفونات المحمولة بها، وفي هذا المحل البسيط ولد فن المهرجان.


تتابع بعدها ظهور المهرجانات وفرقها بدافع حاجة المناطق الشعبية إلى إقامة حفلات زفاف بتكاليف متواضعة لا تتحمل استقدام مطربين حتى الشعبي منهم، فظهر أوكا وأورتيجا والمدفعجية والدخلاوية وأولاد سليم اللبانين.. إلخ، وكان آخر الأسماء التي نالت شهرة واسعة وحظيت بمساحة من الجدل أكثر اتساعاً هما الثنائي اللدود حمو بيكا ومجدي شطة.


مزيج من الراب والتكنو
امتازت موسيقى المهرجانات منذ ظهورها بالانحياز إلى مزاج الطبقات المهمشة، رافضة بقوة، عبر نوعية كلماتها وعنفوان نغماتها، النظام الموسيقي السائد، كما استطاعت أن تفرض وجودها على الساحة الغنائية، معتمدة على معدات موسيقية بسيطة، من دون أن تسلك المسار الرسمي للنجومية من خلال شركات الإنتاج الكبرى، ليعبد الطريق لهم فقط تفضيل الناس لموسيقاهم.
لا تستطيع الأشكال الغنائية الأخرى أن تمنح الجماهير ما يمنحه المهرجان؛ ففي الأخير أنت مدعو للمشاركة، لأن تكون جزءاً أصيلاً منه، عبر الرقص بجدية، لا الاكتفاء بالتمايل والحركات العفوية.
الحركية والمرح والصخب الذي يقدمه المهرجان لأصحابه لا تجعلهم يقفون عند أعتاب التلقي، ليكونوا العنصر الأهم في المهرجان.
هذه الملامح، وغيرها، تعقد صلة قربى مع موسيقى البوب الغربية؛ فالنمطان يتفقان في ظروف النشأة المتواضعة، وفي انطلاقهما بدايةً معتمدين على دعم الطبقات الفقيرة والمنبوذة، كما اشتركا في قوة الألحان وحماستها، وطغيان الإيقاع على صوت المؤدي، إلى جانب استخدام العديد من المؤثرات الصوتية.

ورغم أن معظم الإنتاج الغنائي الموجود على الساحة حالياً ينتمي بالفعل إلى موسيقى البوب، فإن المهرجانات وحدها هي المقابل لهذا النوع من الموسيقى الغربية من حيث الأصالة (مع الوضع في الاعتبار أنها مزيج من الراب والتكنو في قالب شعبي)، فلم تكن مجرد تقليد واكب انتشار البوب في العالم كما كان الحال مع البوب المصري، الذي عرفه البلد في السبعينيات بظهور التقنيات الحديثة في هندسة الصوت مع فرق، مثل "المصريين"، و"الجيتس"، و"الفور إم"، امتداداً إلى مطربين، مثل محمد منير وعمرو دياب ومحمد فؤاد، وصولاً إلى جيل تامر حسني وشيرين. كانت الحاجة الاجتماعية هي من أشرفت على نشأة المهرجانات، لا مجرد المواكبة لموجة موسيقية عالمية هي من دفعته للوجود.



من التخوم إلى المتون
هذا الانتشار الواسع لموسيقى المهرجانات واختراقها كافة طبقات المجتمع، سبقته هزائم متعددة؛ فالهامش الذي خرج منه نجوم المهرجانات كان له مغنون ومطربون سبقوا حاحا وعلاء فيفتي ووأوكا وأورتيجا وأولاد سليم. لكن لم يسمح لهم المركز (الطبقة الوسطى عبر ممثليها) بأن يتخطوا حاجز الهامش، وعاش أغلب المطربين الشعبيين الذي انتموا إلى فترات
زمنية أسبق عمرهم الفني محصورين داخل الهامش ربما باستثناءات قليلة (مثل عبد الباسط حمودة). فمطربون من زمن السبعينات والثمانينات والتسعينات، مثل حمدي باتشان وكتكوت الأمير وضياء ورمضان البرنس وشفيقة ومحمود الحسيني ومجدي طلعت، وحتى عبد الباسط حمودة، لم يكن ليتعرف إلى أسمائهم أحد خلاف جمهور المناطق الشعبية.

كانت ملامحهم مجهولة بدرجة كبيرة إلى القطاع الأكبر من المجتمع وحتى لمحبيهم، مع أن أغانيهم كانت الأكثر التصاقاً بالطبقات الشعبية التي عانت في ذلك الزمن بصورة أكبر من السخرية والإقصاء وازدراء كل ما يتصل بثقافتها ولغتها وموسيقاها وأغانيها.
كان ذوق الطبقة الوسطى هو المتحكم بالمشهد، فلم يتح لواحد من نجوم الطبقات الشعبية الظهور، مثلاً، ضيفا على برامج التلفزيون، أو أن تحتل أغانيه مساحة من الخارطة الغنائية به أو بالإذاعة، فقط من التزموا المعايير الموضوعة من قبل الطبقة المسيطرة (من حيث الشكل والمظهر ولغة الخطاب) أو انتموا إليها، مفضلين اللون الغنائي الشعبي، مثل حكيم ومصطفى كامل وجواهر وحسن الأسمر وبهاء سلطان وخالد عجاج وحلمي عبد الباقي، أو فنانين من فترة زمنية أسبق، مثل محمد رشدي وأحمد عدوية ومحمد العزبي (كأن الغناء الشعبي المعتمد كان موجهاً في الأساس إلى الطبقة الوسطى لا إلى طبقته المكنى به!).
نفس النهج سارت عليه شركات الإنتاج الفني الكبرى (كممثل من ممثلي الطبقة الوسطى) فلم تسمح لواحد من تلك الأسماء بأن ينضم لنجومها المختارين، على عكس ما تحاوله اليوم من سعي لاحتواء نجوم الهامش بعد أن تسللت شهرتهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي إلى المركز وفرضت نفسها على الجميع.



فلسفة المهرجانات
في محاولة للخروج بالفلسفة من نطاق الأكاديمية المحدود إلى فضاء الحياة غير المحدود، ظهر في الغرب ما يعرف بـ"البوب فلسفة". المصطلح برز لأول مرة على لسان الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، ثم أخذ يكتسب معناه شيئاً فشيئاً؛ حيث ارتبط بالثقافة الشعبية واعتنى بموضوعاتها، فلم تترفع فلسفة البوب عن أن تكون موضوعات، مثل المسلسلات التلفزيونية، الأغاني الرائجة، الألعاب الإلكترونية، مشاهدة الأفلام الإباحية.. موضعاً لاهتمامها.
الروح الثورية لموسيقى البوب صاحبت المجال الفكري الجديد الذي قد يبدو للوهلة الأولى أنه أبعد ما يكون عن "الشعبية"؛ فتمردت الفلسفة الناشئة على موضوعاتها التقليدية، مثل الوجود والطبيعة والحقيقة، ورأى منظروها الذين يجتمعون في أكتوبر/تشربن الأول من كل عام في مارسيليا لتداول الدراسات المخصصة حولها أن على الفلسفة "الاستيلاء على الموضوعات التافهة، والتسلل من ثغرات الثقافة الشعبية، والحفر تحت صفحة المادة السطحية ظاهراً.."، لتستهدف مساحات لم تكن الفلسفة التقليدية تنتبه إلى أهمية أن تتواجد بها.

لا يخفى على القارئ الغرض وراء هذه النبذة الخاطفة عن "البوب فلسفة"، فكما استطاعت موسيقى المهرجانات الشعبية أن تفرض ذوقها على المجتمع وأن يكون لها هذا الحضور الطاغي في الساحة الغنائية، ولما لها من أوجه شبه عديدة مع موسيقى البوب، فربما تكون المهرجانات هي الأخرى قادرة على الإلهام بفرع جديد في الفلسفة، يكون أشد اتصالاً بالواقع وقضاياه واهتماماته، وأكثر رشاقة وحيوية من المواد الأكاديمية الكالحة والموضوعات الفكرية المطروقة التي يكاد ينحصر فيها الإنتاج الفكري في مجتمعاتنا، وليكن مسمى هذا الفرع ـ على غرار "البوب فلسفة"، فلسفة المهرجانات.
موسيقى المهرجانات ملهمة بالفعل، فهي استطاعت أن تحقق نجاحاً كبيراً في ثورتها الموسيقية على النظام السائد بهذا المجال، كما تغلبت في ثورتها الطبقية على هرمية المجتمع والسلطة، منتصرة لذوق الطبقات المهمشة، لتطوي صفحة عريضة من تاريخ امتلأ بالإقصاء والازدراء، ولم يكن ذلك لينجح بالطبع من غير مواقع التواصل الاجتماعي التي أعطت الفرصة لنجوم المهرجانات أن يعرضوا نتاجهم من دون وصاية أو استبعاد، رغم أنف نقيب الموسيقيين؛ دون كيشوت الطبقة الوسطى الذي يقف اليوم مقاوماً رياح التغيير العاتية.

دلالات

المساهمون