بعيداً عن القدس: هذه هي "الطريق" في الفنون والآداب

بعيداً عن القدس: هذه هي "الطريق" في الفنون والآداب

14 يوليو 2015
طاغور الذي قضى حياته مسافراً "على الطريق" (Getty)
+ الخط -
لعلّ "الطريق إلى" هي أهمّ ما يميّز حياة كلّ إنسان، أو ربّما كلّ كائن حيّ. تبدأ الحياة بـ"الخطوة الأولى". نمشي بعدما نزحف. ثم نقف وتبدأ الطريق. وبسرعة نكتشف أنّنا عملياً نقضي معظم حياتنا على الطريق:

الطريق إلى المدرسة، إلى البيت، إلى الجامعة، الطريق إلى الزبداني، إلى الزواج، إلى الطلاق، الطريق إلى الثراء، إلى جونية، إلى الإفلاس، الطريق إلى الاكتئاب، إلى العمل، إلى فلسطين، إلى الحبّ، إلى المقهى، إلى الندم، الطريق إلى الوجع، إلى الفقر، إلى فيينا...

قالت دراسة نشرها موقع "distractify" في يناير/كانون الثاني الفائت إنّ الإنسان العادي يمشي 110 آلاف ميل في حياته، أي كما لو أنّه دار حول الكوكب أربع مرّات. ويقود السيارة لأربع سنوات وأربعة أشهر تقريباً، منها ثلاثة أشهر في الازدحامات المرورية.

نمشي كثيراً إذاً ويعبر بعض عمرنا ونحن على الطريق. وحين لا نمشي، نكون نمشي في مكان آخر. إذ نقضي 70 في المائة من أوقاتنا أمام وسائل التواصل والإعلام. نفكّر ونتعلّم ونغيّر آراءنا ونقارن ونحلّل ونتّخذ قرارات...

الطريق هي الأهمّ. النجاحات قد تكون قليلة ومعدودة، كذلك الخسائر والهزائم والخيبات. لذا نتذكّرها طويلاً. "الوصول" ليس إلا لحظات عابرة. الأهمّ هو الطريق. "الغاية هي الطريق"، على ما جاء في "خطاب إلى الرجل الصغير" للكاتب الألماني فيلهلم رايش، في 1946. و"كلّ خطوة اليوم هي حياتك غداً"، كتب اعتراضاً على مقولة "الغاية تبرّر الوسيلة". فقد "ثبت في كلّ انقلاب اجتماعيّ أنّ وضاعة الوسيلة ولا إنسانيتها تجعلكَ حقيراً ولا إنسانياً وتجعل الهدف وضيعاً". وهو كتاب كان موجّهاً ضدّ النازية، ورجلها الصغير أدولف هتلر.




روبندرونات طاغور، الحائز على جائزة نوبل في الآداب عام 1913، في كتابه "جنى الثمار" يحكي قصّة بديعة عن الزيت والملعقة. عن رجل يدور حول العالم وفي يده ملعقة عليها نقطة زيت، يكون حريصاً على عدم خسارة النقطة، فلا يرى شيئاً. تضيع حياته – جولته هباءً. ثم يدور حول العالم غير آبه بالملعقة، فيخسر الزيت. وبين الرحلتين تكمن الحكمة: في أن ترى كلّ شيء من دون أن تخسر نقطة صغيرة في ملعقة الروح. أن تحافظ على تلك النقطة في داخلكَ من دون أن تخسر التجربة والرؤية. هكذا قال طاغور الذي قضى أكثر من نصف عمره مسافراً بين أوروبا وآسيا وأميركا.

اقرأ أيضاً: لهذه الأسباب تَيْم حسن ليس وسيماً أيّتها السيّدات

كذلك فإنّ رواية "على الطريق" للكاتب الأميركي جاك كرواك، والتي صنّفت من بين أفضل 100 رواية في القرن العشرين، تروي سيرة حياة شاب أميركي منتصف القرن الماضي، هو وصديقه وآخرون، لكن "على الطريق". وما الحياة سوى رحلات. تلك الرواية الباهرة، والتي تحوّلت إلى فليم هوليوودي قبل سنوات، صنعت "أدب الرحلات" في شكله العصريّ، ولا حكمة فيها غير أنّ "الحياة هي الطريق". الطريق بمعنى التجربة والخوض في المغامرات والعيش بلا خطط أحياناً وبلا هدف أوّلاً. لأنّ الطريق قد تكون، والأرجح أنّها، هدفٌ كافٍ.

ألم يكتب الشاعر إيليا أبو ماضي: "جئتُ لا أعلم من أين، ولكنّي أتيتُ، ولقد أبصرتُ قدّامي طريقاً فمشيتُ، وسأبقى ماشياً إن شئتُ هذا أم أبيتُ، كيف جئتُ كيف أبصرتُ طريقي لست أدري".

قبل كلّ ذلك كانت حكايات السندباد، والذي يروي مغامراته، كما لو أنّه يعيشها مرّة أخرى. ومثلها روايات كثيرة أبرزها "حول العالم في ثمانين يوماً" في القرن الـ19 لجول فيرن. وكيف أنّ العالم كلّه قد يكمن في داخلكَ لكنّك تذهب بعيداً لتكتشف نفسكَ وليس العالم.

حتّى إنّ القرآن الكريم، "الكتاب" الأوّل في الثقافة العربية، تبدأ سورته الأولى، سورة "الفاتحة"، بطلب واحد، هو أن يهدي الله عباده: "اهدنا الصراطَ المستقيم، صراطَ الذين أنعمتَ عليهم، غير المغضوب عليهم، ولا الضآلين". فالصراط، أي الطريق، هو الأهمّ، وليس الهدف. لم يرد في فاتحة القرآن الكريم طلب "الوصول إلى الجنّة"، بل "الصراط المستقيم".



هكذا طريقنا اليوم هي حياتنا غداً، وذاكرتنا السندبادية بعد غد، وتاريخنا الشخصيّ وتاريخ بلادنا لاحقاً. ولن يبقى منها غير نقطة الروح في ملعقة الذاكرة والتاريخ. قد لا يتذكّر أحدنا أنّه نجح في امتحاناته، قدر ما يتذكّر كم كان سعيداً وهو يدرس مع زملائه، وكم كان تعيساً حين اضطرّ لتغيير المدرسة، وكم كان فخوراً حين أحبّته الفتاة الجميلة في الصفّ الدراسي. قد لا يتذكّر أحد عيد الاستقلال لكنّه يتذكّر حين قاد السيّارة للمرّة الأولى.

بعيداً عن طريق القدس ونقاشاتها، وطريق فيينا واتفاقاتها، وطريق الزبداني ودمشق وحروبها، فإنّ الغاية هي الطريق.

اقرأ أيضاً: المغامرة المجانية: خطر أم تجربة ممتعة؟

المساهمون