هذا التنافس الفرنسي الإيطالي على ليبيا

30 مايو 2018
+ الخط -
تعتبر فرنسا فاعلًا أساسيًا في مسار الصراع الليبي، إذ يعد الرئيس الأسبق، نيكولا ساركوزي، عراب التدخل العسكري في ليبيا، أوعز إلى قواته بالتحرك إلى ليبيا مباشرةً بعد صدور قرار مجلس الأمن 1973 في 17 مارس/ آذار 2011، الذي أجاز استخدام القوة في مواجهة القوات الموالية لمعمر القذافي، بذريعة حماية المدنيين، فقد انطلقت عملية "هارماتان" العسكرية الفرنسية بعد يومين من صدور القرار، واستمدت تسميتها نسبة إلى ريح جافة ساخنة تهب على الصحراء الكبرى بين شهري نوفمبر/ تشرين الثاني ومارس/ آذار، بعدها انضمت القطع الحربية الفرنسية للحملة العسكرية لحلف شمال الأطلسي (الناتو) التي تولت العملية العسكرية تحت اسم "عملية الحامي الموحد" في 31 مارس/ آذار 2011. وكانت فرنسا قد أعلنت أن الهدف من التدخل العسكري في ليبيا حماية المدنيين، لكن الغرض الحقيقي غير المعلن هو تعظيم نفوذ فرنسا وسيطرتها في ليبيا، وهو ما يفسره تموضع القوات الفرنسية شرق ليبيا وجنوبها. واليوم يكتوي ساركوزي برياح صحراء ليبيا، ويغرق في رمالها، بعد اتهامه بتلقي تمويلٍ غير قانوني لحملته الانتخابية في العام 2007 من القذافي. وفي المقابل، لم تكن روما متحمسةً لإسقاط نظام القذافي، فقد اعتبر رئيس الحكومة الإيطالية الأسبق، سيلفيو بيرلسكوني، أن تدخل "الناتو" وإطاحة القذافي قد هددا مصالح بلاده السياسية والاقتصادية في ليبيا، فقد خسرت روما جزءًا كبيرًا من مصالحها الاقتصادية ونفوذها في ليبيا.
واستمرت روما وباريس بتبني استراتيجيات عمل في ليبيا قائمة على التوازن بين المصالح والمخاوف من الانزلاق في أتون الحرب الأهلية الليبية، ولكن باريس خرجت عن صمتها، 
بعدما تكبدت خسائر في صفوف جنودها في يوليو/ تموز 2016، عندما أعلن حينها الرئيس السابق، فرانسوا هولاند، مقتل ثلاثة جنود غرب بنغازي إثر تحطم مروحيتهم. ولا يختلف اثنان على أن غرض الوجود العسكري الفرنسي شرق ليبيا هو دعم قوات العقيد خليفة حفتر، فباريس منحازة بشكل كامل لطرفٍ في المشهد السياسي الليبي، على الرغم من اعترافها الصريح بالاتفاق السياسي (الصخيرات)، وبحكومة فايز السراج في طرابلس باعتبارها الحكومة الشرعية في البلاد.
بدا الاهتمام الفرنسي المتزايد واضحًا في الملف الليبي في سياسة الرئيس الجديد، إيمانويل ماكرون، حيث قال وزير الخارجية الفرنسي، جان إيف لودريان، في حوار مع صحيفة لوموند الفرنسية، في يونيو/ حزيران 2017، إن ليبيا من أولويات الرئيس ماكرون. وقد استندت الدبلوماسية الفرنسية، في جزء منها، في إدارة الملف الليبي إلى دور دولة الإمارات في مساعدتها على جمع قطبي الرحى في الأزمة، العقيد خليفة حفتر الذي تسيطر قواته على الشرق الليبي، وعلى مناطق حيوية في ليبيا، أهمها الهلال النفطي الذي يحتوي احتياطات كبيرة من الطاقة، لما لأبو ظبي من تأثير على حفتر الذي يعتبر حليفها الاستراتيجي في ليبيا، ورئيس حكومة الوفاق الليبي، فايز السراج. وقد سعت أبو ظبي من ذلك إلى أن تتخذ باريس موقفا تجاه الدوحة التي فرضت عليها كل من الرياض والمنامة وأبوظبي والقاهرة حصارًا في يونيو/ حزيران العام الماضي.
وقد تم اللقاء بالفعل في باريس في 25 يوليو/ تموز الماضي، تحت رعاية ماكرون، بغرض دفع العملية السياسية في ليبيا، وتزامن مع تولي الممثل الخاص الجديد للأمين العام للأمم المتحدة، غسان سلامة، مهامه، ما يعني رغبة باريس بفرض واقع جديد في المشهد السياسي الليبي، بحيث لا يستطيع المبعوث الأممي الجديد تجاوزه أو تجاهله، فتصبح هي مفتاح الحل للأزمة السياسية. وقد أثار تحرك باريس المنفرد آنذاك غضب الساسة الإيطاليين الذين انتقدوا غياب بلادهم عن المشهد، والتي لم تتلق أية معلومات إطلاقًا من فرنسا عن حيثيات اللقاء، ولكن جرى إبلاغها بالأمر فقط عن طريق شخصيات مقربة من السراج وحفتر على السواء. وشكل ذلك خيبة أمل لإيطاليا التي رأت في خطوات باريس إلى احتكار ملف ليبيا محاولة لسحب البساط من تحت أقدام الساسة الإيطاليين، باعتبارهم أصحاب الجهد التنسيقي والدبلوماسي للقاطرة الأوروبية في ليبيا.
ويذكر أن ذلك الاجتماع لم يأت بجديد، ولم يُحدث أي اختراقٍ في مسار الأزمة السياسية الليبية. وحينها، كان التحرّك الإيطالي باتجاه التأكيد على ضرورة التعامل مع حكومة الوفاق الوطني ودعمها، ذلك أن روما منفتحةٌ على الحوار مع كل الأفرقاء الليبيين، وخصوصا في مدينة مصراته، وقد أرسلت إلى أبو ظبي رسالة واضحة، عندما وقعت في شهر أغسطس/ آب عقداً لتوريد سبع قطع بحرية للقوات البحرية القطرية، وعبّر المسؤولون الإيطاليون عن اهتمامهم بتطوير التعاون الدفاعي بين روما والدوحة.
لكن فرنسا ما زالت تبحث عن تعظيم نفوذها في ليبيا، وفرض نفسها لاعبا أساسيا من خلال سعيها إلى عقد لقاء يجمع أطراف الصراع في ليبيا، لاسيما أن الفرصة مواتية مع انشغال روما في تشكيل حكومة من ائتلاف اليمين (حزبي الليغا (الرابطة) وخمس نجوم)، خصوصا أن هذين الحزبين قد انتقدا سياسات رئيس الحكومة السابق، ماتيو رينزي، في إدارة السياسة الخارجية الإيطالية، ولا سيما في ليبيا، وهي الأحزاب ذاتها التي تدعو إلى اتباع سياسات أكثر انفتاحا على خليفة حفتر، باعتباره الفاعل الأكثر تأثيرًا وقدرة على محاربة الهجرة غير الشرعية والحركات الإرهابية، كما يرى بعض قادة ائتلاف اليمين الإيطالي، وفي مقدمتهم، زعيم حزب الليغا (الرابطة)، ماتيو سالفيني، في سياسات موسكو في ليييا وسورية الأكثر نجاعة من سياسات الاتحاد الأوروبي، ما يجعل توجهات الحكومة الإيطالية الجديدة التي يرأسها أستاذ القانون الدولي في جامعة فلورنسا، جوزيبي كونتي، غير واضحة الوجهة بشأن الأزمة في ليبيا. إضافة إلى غياب استراتيجية أميركية وتعاملها بضبابية مع هذه الأزمة.
وقد تولّى الرئيس ماكرون في سبيل ذلك تكليف أجهزة المخابرات الفرنسية، ووزير خارجيته لورديان، للتأثير في الأطراف الليبية، ودفعها إلى الاجتماع في باريس، وتوسيع الاتصالات لتشمل رئيس مجلس النواب، عقيلة صالح، والعقيد خليفة حفتر، ورئيس مجلس الدولة المنتخب، خالد المشري. وقد رأت روما، على لسان مصدر في الخارجية الإيطالية، بأن مبادرات باريس خطوات استعراضية، ولن تحرز أي تقدم ملموس في العملية السياسية في ليبيا وتحقيق 
الاستقرار. وسارع السفير الإيطالي في طرابلس، جوزيبي بيروني، إلى لقاء رئيس الحكومة الليبية، فايز السراج، بهدف فهم تحركات باريس هذه، وأكد أن بلاده تؤيد حكومة الوفاق، وتؤيد مبادرة المبعوث الأممي غسان سلامة لحل الأزمة الليبية، ودعم المسار الديمقراطي الذي يفضي إلى انتخابات رئاسية وبرلمانية، وفق الخطة التي أطلقها في 20 سبتمبر/ أيلول 2017.
وتسعى فرنسا إلى تعظيم مصالحها الاقتصادية من بوابة التحديات الاستراتيجية التي تواجه دورها على المستوى الدولي، ما يعني أن هناك توجها استراتيجيا في باريس نحو التدخل في الشأن الليبي، يأتي جزءا من مراجعةٍ شاملةٍ تطلبها الفكر الاستراتيجي الفرنسي المتجدّد لمجمل السياسات العسكرية والأمنية الفرنسية في الخارج، من أجل الظهور بمظهر القوى الأوروبية الأكثر دينامية وقدرة على التحرك، في ظل التحولات التي يشهدها الاتحاد الأوروبي، وتعظيم مصالحها وبناء شراكات أمنية وسياسية لحماية أمنها ومصالحها غرب أفريقيا، حيث تعتبر ليبيا نقطة ارتكازها الاستراتيجية. في حين تسعى روما جاهدةً إلى الحفاظ على نفوذها في ليبيا لاعتبارات تاريخية، فقد كانت ليبيا من المستعمرات الإيطالية في القارة الأفريقية حتى استقلالها عام 1951، وأمنيّة لقربها الجغرافي، وارتباط أمن روما بأمن طرابلس، واقتصادية من خلال الذراع الاقتصادية الإيطالية، شركة إيني للطاقة التي حافظت على وجودها، على الرغم من الحصار والعقوبات الدولية التي فرضها المجتمع الدولي على نظام معمر القذافي، والشركات الاقتصادية الإيطالية، ما يعني أن التنافس الإيطالي الفرنسي في الساحة الليبية عامل خارجي يساهم بشكل فعال في عدم تحقيق أي تقدم في مسار العملية السياسية، وبالتالي يضع الانتقال/ التحول الديمقراطي في ليبيا أمام تحدياتٍ داخليةٍ، تغذّيها صراعات القوى الإقليمية وتناقض مصالحها واستراتيجياتها.
05C60754-3195-4BA1-8C61-5E78E41A4B63
أحمد قاسم حسين

كاتب وباحث فلسطيني في مركز الأبحاث ودراسة السياسات، مقيم في الدوحة