19 أكتوبر 2019
أميركا وأوروبا ومعضلة التعامل مع روسيا
أُقصيت روسيا من مجموعة الدول الثماني في 2014، بسبب استيلائها على القرم، لتعود بذلك إلى تسميتها الأصلية، مجموعة الدول السبع. واقترح الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عشية انعقاد قمة بياريتز (فرنسا)، الأسبوع الماضي، عودة روسيا إلى هذه المجموعة في قمتها المقبلة، لأن قضايا عديدة مطروحة على طاولة المحادثات تخص روسيا أيضاً، على حد قوله. وفيما رفضت الدول الأوروبية وكندا ذلك معتبرة أن هذه المسألة لم تحن بعد، أقبلت مجموعة السبع على خطوة باتجاهها، حيث اتفقت على "تعزيز الحوار والتنسيق مع روسيا بشأن الأزمات الحالية". وهذا إقرار بمركزيتها وشرعية دورها في بعض الأزمات، وبالتالي عدم إمكانية تجاوزها، كما أنه إقرار بأن عدم التعامل معها ليس حلاً، وأن العقوبات وحدها لن تجدي. وتربط دول أوروبية، في مقدمتها فرنسا، عودة روسيا إلى المجموعة بالتوصل إلى تسوية سياسية لأزمة القرم.
يعبّر الخلاف بين الدول السبع على سبل التعامل مع روسيا عن معضلة التعاطي الغربي معها، فهو بحاجةٍ إليها، وفي الوقت نفسه، يعتبرها الآخر الاستراتيجي. وما يزعج القوى الغربية ليس أن روسيا بوتين لا تتصرّف "كما ينبغي"، وإنما لأنها لا تتصرّف في الاتجاه الذي تريده هذه القوى، بغض النظر عن صحته/ شرعيته من عدمه، فهي تعاكس مصالح القوى الغربية في أكثر من أزمة. ولكن هذا لا يعني أن هناك توافقاً بين القوى الغربية بشأن كيفية التعامل معها. وهناك اتجاهان بهذا الشأن، نجدهما حتى داخل البلد الواحد.
يتجاذب الديمقراطيات الليبرالية الغربية عموماً تياران على طرفي النقيض. يقول الأول
بضرورة عدم التعامل مع القوى/ الدول غير الديمقراطية إن هي لم تحترم بعض القواعد التي تعمل بها الديمقراطيات الغربية، فهو يرى أنه لا ينبغي التحاور مع هذه الدول، وإنما الضغط وتسليط العقوبات عليها لإرغامها على الإقبال على ما ترفضه من تلقاء نفسها و/ أو إجبارها على العدول عن سياستها. ويستهدف أصحاب هذا الرأي المتشدّد دولاً مثل روسيا والصين وإيران، ولكن بدرجات متفاوتة تماماً، فأصحاب هذا الرأي من الأوروبيين يستهدفون روسيا تحديداً، ثم الصين وإيران، ولكن بحدّة منخفضة للغاية، فيما يستهدف الأميركيون الصين وإيران تحديداً، وتحظى روسيا بمعاملة خاصة من هؤلاء، سيما من إدارة ترامب.
ويقول التيار الثاني بالواقعية السياسية، والتعامل مع الواقع كما هو، فهو يعتبر أن المعيار الديمقراطي لا يصلح، لأنه يعني عدم التعامل مع أغلبية الدول، ثم إنه من غير مقدور الغرب أن يجبر قوىً أخرى على التصرّف مثله، ناهيك أن تكون مثله. يرى أصحاب هذا الطرح الواقعي أن من مصلحة القوى الغربية التعامل والتحاور مع كل الدول، بغض النظر عن طبيعة أنظمتها، فالعلاقات الدولية علاقات مصلحة. وهناك حجة دامغة يقولون بها، أن التهميش/ الإقصاء لن يؤتي أكله، كما تثبت الحالة الروسية ذلك.
بالطبع، تحجب هذه النظرة العامة، الرؤية عن فوارق وتناقضات بينية، فأميركا ــ ترامب تميل لروسيا على حساب الاتحاد الأوروبي، بل وتضغط لوضع الأخير بين مطرقة روسيا وسندان "بريكست". ثم هناك حسابات ماكيافيلية أميركية: إلهاء أوروبا بروسيا، لتنقسم على نفسها بشأن طريقة التعامل معها، ولتكون بالتالي أقل اهتماماً ببنائها وبقضاياها الأساسية، ما يفسح المجال لأميركا لاستضعافها أكثر، فعلى الرغم من شبهات شبه مؤكدة بتورّط روسيا وتلاعبها بحملة الرئاسيات الأميركية الأخيرة، فإن إدارة ترامب التي استفادت من هذا التلاعب لا تعير ذلك أهمية، بل تبدو، في بعض الأحيان، حليمة مع روسيا، قاسية مع حلفائها الأوروبيين. ومن ثم ما دامت روسيا تسبب متاعب لأوروبا، فإن قيمتها في نظر ترامب لن تتزعزع.
للأوروبيين اعتباراتهم الخاصة، غير المنسجمة في معظمها، فدول أوروبا الشرقية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي هي تقليدياً الأكثر تشدّداً حيال روسيا، وازداد تشدّدها منذ أزمة القرم عام
2014، فهي لا زالت تعتبر روسيا تهديداً لأمنها. أما القوى الكبرى داخل الاتحاد، سيما فرنسا وألمانيا، فتنتقد أيضاً روسيا، وتعتبر أزمة القرم معضلةً حقيقية في العلاقة معها، لكنها أبقت دائماً على شعرة معاوية معها، لعدة أسباب: أولاً، على الرغم من تسليط العقوبات الأوروبية عليها، فهي لم تدفع نحو القطيعة، لأنها مقتنعة بأن ذلك ليس حلاً، ولن يزيد روسيا إلا تعنتاً وابتعاداً عن الاتحاد الأوروبي. ثانياً، تعي هذه القوى أن أي قراءةٍ سليمةٍ للعلاقة الأوروبية - الروسية يجب أن تأخذ في الحسبان العلاقة الأوروبية - الأميركية، فأوروبا بحاجة لروسيا لموازنة القوة الأميركية في بعض الملفات. ثالثاً، تعلم القوى ذاتها أنها بحاجة أيضاً إلى روسيا في الأزمات الدولية، مثل الأزمة السورية. لذا تبقي فرنسا دائماً على التواصل ودبلوماسية القمم مع روسيا بوتين. رابعاً، القوى الأوروبية بحاجة لروسيا والصين، لدعم فكرة عالم متعدّد الأقطاب، وموازنة القوة الأميركية في بعض المجالات، خصوصا مع استفحال العمل الأحادي في عهد ترامب.
هناك نقطة اهتمام مشتركة بين أوروبا وأميركيا، وهي محاولة استمالة روسيا حتى لا تتحوّل علاقتها المتطورة مع الصين إلى شراكة إستراتيجية حقيقية، تضع الهيمنة الغربية على المحك. ثم إن ترامب بحاجة إلى تهدئة الوضع مع روسيا، للتفرّغ لحربه التجارية مع الصين.
يتجاذب الديمقراطيات الليبرالية الغربية عموماً تياران على طرفي النقيض. يقول الأول
ويقول التيار الثاني بالواقعية السياسية، والتعامل مع الواقع كما هو، فهو يعتبر أن المعيار الديمقراطي لا يصلح، لأنه يعني عدم التعامل مع أغلبية الدول، ثم إنه من غير مقدور الغرب أن يجبر قوىً أخرى على التصرّف مثله، ناهيك أن تكون مثله. يرى أصحاب هذا الطرح الواقعي أن من مصلحة القوى الغربية التعامل والتحاور مع كل الدول، بغض النظر عن طبيعة أنظمتها، فالعلاقات الدولية علاقات مصلحة. وهناك حجة دامغة يقولون بها، أن التهميش/ الإقصاء لن يؤتي أكله، كما تثبت الحالة الروسية ذلك.
بالطبع، تحجب هذه النظرة العامة، الرؤية عن فوارق وتناقضات بينية، فأميركا ــ ترامب تميل لروسيا على حساب الاتحاد الأوروبي، بل وتضغط لوضع الأخير بين مطرقة روسيا وسندان "بريكست". ثم هناك حسابات ماكيافيلية أميركية: إلهاء أوروبا بروسيا، لتنقسم على نفسها بشأن طريقة التعامل معها، ولتكون بالتالي أقل اهتماماً ببنائها وبقضاياها الأساسية، ما يفسح المجال لأميركا لاستضعافها أكثر، فعلى الرغم من شبهات شبه مؤكدة بتورّط روسيا وتلاعبها بحملة الرئاسيات الأميركية الأخيرة، فإن إدارة ترامب التي استفادت من هذا التلاعب لا تعير ذلك أهمية، بل تبدو، في بعض الأحيان، حليمة مع روسيا، قاسية مع حلفائها الأوروبيين. ومن ثم ما دامت روسيا تسبب متاعب لأوروبا، فإن قيمتها في نظر ترامب لن تتزعزع.
للأوروبيين اعتباراتهم الخاصة، غير المنسجمة في معظمها، فدول أوروبا الشرقية الأعضاء في الاتحاد الأوروبي هي تقليدياً الأكثر تشدّداً حيال روسيا، وازداد تشدّدها منذ أزمة القرم عام
هناك نقطة اهتمام مشتركة بين أوروبا وأميركيا، وهي محاولة استمالة روسيا حتى لا تتحوّل علاقتها المتطورة مع الصين إلى شراكة إستراتيجية حقيقية، تضع الهيمنة الغربية على المحك. ثم إن ترامب بحاجة إلى تهدئة الوضع مع روسيا، للتفرّغ لحربه التجارية مع الصين.