ليبيا بين السلطان والقيصر: تنسيق لضمان المصالح

ليبيا بين السلطان والقيصر: تنسيق لضمان المصالح

14 يونيو 2020
استطاع بوتين وأردوغان بناء علاقات أقرب إلى الاستراتيجية(فرانس برس)
+ الخط -

تشكل الأزمة الليبية أحدث اختبار لمتانة العلاقات الروسية التركية ومدى قدرة ساسة البلدين على اجتراح حلول تضمن مصالح كل منهما ضمن خريطة تحالفات وعداوات صعبة ودقيقة ومتباينة، وتجنبهما الدخول في صراع مباشر قد يؤدي إلى خسارة كل الجهود الحثيثة التي بذلت من أجل رفع مستوى العلاقات الثنائية، التي وإن لم ترقَ إلى علاقات استراتيجية، إلا أنها تتميز بتشعبها وشمولها الجوانب السياسية والاقتصادية والعسكرية، ما يجعلها مهمة جداً لكل من موسكو وأنقرة الطامحتين إلى دور عالمي أكبر تحت قيادة "القيصر" فلاديمير بوتين الراغب في استعادة أمجاد السوفييت والإمبراطورية الروسية، و"السلطان" رجب طيب أردوغان الطامح إلى استعادة دور "الباب العالي" القوي.

نظرياً، تصنّف موسكو في المحور الداعم للواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر، لكنها تحرص على بناء علاقات مع جميع أطراف الأزمة الداخلية واللاعبين الإقليميين والدوليين في ليبيا. في المقابل، تدعم أنقرة بشكل علني حكومة الوفاق المعترف بها دولياً بقيادة فائز السراج. وفي حين تأمل الأطراف الإقليمية الداعمة لحفتر (الإمارات، ومصر، وبدرجة أقل السعودية) في تدخل عسكري مباشر لموسكو على شاكلة تدخلها في سورية في خريف 2015 الذي أنقذ نظام بشار الأسد من الانهيار، تشي تحركات روسيا واتصالاتها وطريقة إدارة الأزمة، بأنها لن تذهب إلى هذا الخيار الصعب، نظراً لطبيعة مصالحها في ليبيا المختلفة عما هو الحال في سورية.

محددات موسكو

لم يختلف موقف روسيا من الأحداث في ليبيا منذ بداية الثورة على نظام العقيد الراحل معمر القذافي في 2011، عن موقفها المتحفظ من "الربيع العربي"، وتصنيفه ضمن "الثورات الملونة" المدعومة من الغرب لإزاحة الأنظمة من الخارج. وفي ليبيا، كانت الخشية من خسارة الشركات الروسية صفقات في مجال التسليح والطاقة والبنية التحتية تقدر قيمتها بنحو 15 مليار دولار كان تمّ الاتفاق عليها بعد زيارة القذافي موسكو في 2008، وإنهاء ملف الديون السوفييتية العالقة على ليبيا المقدرة بنحو 4.5 مليارات دولار. وتاريخياً، كانت طرابلس من حلفاء موسكو، لكن علاقات الطرفين تميّزت بالمدّ والجزر وارتبطت بمزاجية القذافي وتقلباته الفكرية، ما جعلها تتراجع إلى مستوى أدنى مقارنة بالعلاقة مع الجزائر الأولى في صفقات التسليح والشريك في مجال الطاقة، ومصر باعتبارها أكبر دولة عربية.

وبعد تمريرها القرار 1973 في مارس/آذار 2011، والذي سمح بالتدخل العسكري في ليبيا، بدأت موسكو لاحقاً في توجيه الانتقادات للغرب واتهامه باستغلال القرار بشكل خاطئ لإطاحة القذافي. وقد تبدّلت المواقف الروسية من المراهنة على غوص الولايات المتحدة والغرب في الرمال الليبية، إلى توجيه انتقادات حادة لسياسات واشنطن وبروكسل، محذّرة من فوضى السلاح وتقسيم البلاد، وخلق مستنقع جديد للتنظيمات الإرهابية في شمال أفريقيا. وتواصل موسكو نفي أي صلة لها بمجموعات "فاغنر" الممولة من يفغيني بريغوجين، رجل الأعمال المقرب من بوتين والمعروف بـ"طباخ الكرملين"، والتي تؤكد تقارير أنها تشارك في القتال إلى جانب مليشيات حفتر. ويمكن لموسكو تبرير إمدادات السلاح والقذائف وغيرها لحفتر، بتنفيذ اتفاقات سابقة مع نظام القذافي تتضمن صيانة الأسلحة وتحديثها.

وتشدّد وزارة الخارجية الروسية على مرجعية اتفاق الصخيرات الموقّع عام 2015، كأساس لا يمكن تجاوزه في ليبيا، وهو ما يمنحها الحق في التواصل مع جميع الأطراف المشاركة فيه أو الهيئات المنبثقة عنه، وهو ما يمنحها كذلك حقاً في إقامة علاقات مع حفتر باعتباره "قائد الجيش" المعيّن من قبل برلمان طبرق. وتضغط مجموعات من الشركات الروسية من أجل المحافظة على مشروعاتها في ليبيا، لا سيما شركات الطاقة العاملة في مجال النفط والغاز، إضافة إلى الحصول على حصة من "كعكة" إعادة الإعمار بعد الوصول إلى حل سياسي.

وتنطلق النخب الروسية من أنّ ليبيا يمكن أن تشكّل بوابة إضافية للولوج إلى القارة السمراء، على الرغم من أنّ علاقات روسيا مع كل من مصر والجزائر والمغرب تسمح بأن تؤدي هذا الدور. وتسعى روسيا إلى استخدام ورقة محاربة الإرهاب والهجرة غير الشرعية عبر البحر المتوسط من أجل قبول الأطراف الأوروبية بدورها المتصاعد في حلّ الأزمة الليبية.

في المقابل، وعلى الرغم من طموحات موسكو بالبناء على تصاعد دورها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بعد التدخل في سورية، يبدو أنّ كثرة اللاعبين الدوليين والإقليميين القادرين على التأثير بشكل كبير في ليبيا، والاختلاط الكبير في شبكة المصالح، إضافة إلى عدم وجود مصالح استراتيجية كبرى في هذه الدولة، تدفع صانعي السياسة في الكرملين إلى عدم الدخول في مغامرة عسكرية كبيرة، قد تبدو نتائجها مضمونة من الجانب العسكري، لكن استثمارها السياسي صعب جداً، ويقوض أساس رؤية موسكو القائمة على المحافظة على مسافة واحدة من جميع القوى المحلية، وعدم الإضرار بمصالحها الاستراتيجية مع الغرب أو تركيا، وعدم خسارة استثمارات وعقود شركاتها.

المرآة السورية

دأبت دول المحور الداعم لحفتر في المراهنة على أنّ الموقف المعادي لحركات الإسلام السياسي، وعدم الرغبة في وصولها إلى الحكم، والذي يجمعها مع روسيا، سوف يؤدي حتماً إلى إسراع الجيش الروسي لمنع انهيار حفتر بتدخل عسكري مباشر. وقد راهن هذا المحور على تصاعد الخلافات الروسية التركية وإمكانية وصولها إلى حدّ التصادم العسكري المباشر على أراضي ليبيا التي تشهد حسب تقارير حرباً بالوكالة باستخدام "فاغنر" ومرتزقة سوريين من طرفي الصراع. ومع وجود خطوط حمر روسية لناحية منع تقدّم قوات حكومة الوفاق، حسب مصادر مطلعة في موسكو، إلى ما بعد مدينة سرت باتجاه الهلال النفطي، وعدم السماح لها مطلقاً بالسيطرة على مناطق الحدود مع مصر، وتشديد موسكو على رفض الحسم العسكري للأزمة لمصلحة طرف على آخر، والاحتكام للحوار والحلّ السياسي، يبدو أنّ الكرملين بات يفضّل أن تلعب تركيا دوراً أكبر في قيادة الجهود الدولية لإيجاد حلّ للأزمة الليبية، يحاكي نوعاً ما الدور الروسي في سورية، شريطة مراعاة مصالح موسكو وخطوطها الحمر، ما يخفف الضغوط الدولية عليها ويبقيها رقماً صعباً قادراً على التأثير في الحل عبر الاتصال اليومي المباشر بين الوزارات التركية والروسية المعنية، مع تدخل بوتين وأردوغان شخصياً إذا اقتضت الحاجة.

وتبني موسكو موقفها بقبول الدعم العسكري التركي المباشر لطرابلس، انطلاقاً من أنّ أنقرة موجودة على الأراضي الليبية بطلب من حكومة الوفاق الشرعية المعترف بها دولياً، ولهذا، فقلما وجّه الكرملين والخارجية الروسية انتقادات للوجود التركي في ليبيا، وهو المبرر الذي تشهره موسكو في وجه منتقدي تدخلها العسكري في سورية. وتدرك روسيا أنّ المصالح التركية في ليبيا أكبر بكثير من مصالحها، وما يخفف من حماسها لقيادة الجهود للحلّ السياسي عدم وجود محور مثل أستانة الذي جمعها مع إيران وتركيا لحلّ الأزمة السورية، نظراً للتضارب الكبير في مواقف بلدان الجوار الليبي، والمصالح الأوروبية الكبيرة والمتباينة لكل من فرنسا وإيطاليا والاتحاد الأوروبي عموماً والولايات المتحدة، مع عدم إجماعها على دعم طرف بعينه.

وفي المقابل، فإنّ موسكو تنطلق من أنّ التفاهم مع أنقرة مهم جداً نظراً لتدخل الأخيرة المباشر والقوي وعدم وجود مؤشرات على أنها يمكن أن تنسحب من المعركة، وهي تسعى إلى تقوية مواقع حكومة السراج قبل الدخول في أي حلّ سياسي، وهو ما بدا واضحاً في مشاركتها العسكرية، وإصرارها على متابعة الحملة الأخيرة على الرغم من الضغوط الدولية المتزايدة لوقف تقدم حكومة الوفاق شرقاً وجنوباً.

وتأمل موسكو في أن تسعى أنقرة إلى أن تراعي نتائج أي عملية سياسية المصالح الروسية في ليبيا، في ردّ على التزام وتفهّم روسيا لمصالح تركيا الاستراتيجية في شمال غرب وشمال شرق سورية.

وبمراقبة التحركات والتصريحات الأخيرة الصادرة عن الطرفين، يبدو أنّ تركيا وروسيا ذاهبتان إلى تنسيق مواقفهما في ليبيا بما يضمن مصالح كل طرف، وليس باتجاه التنافس أو الصراع الذي يضعفهما وقد يؤثر في مسار العلاقات المتطورة بينهما، وذلك انطلاقاً من إدراك مشترك بأنّ كلا منهما لا يستطيع إحراز انتصار حاسم لصالح الطرف الآخر، وانطلاقاً من تجارب ثلاثة قرون من الحروب بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية، وحقيقة أن اندلاع فتيل أي حرب بينهما يمكن أن يؤدي إلى تراجع دورهما العالمي المتصاعد منذ نحو عقدين. ومن الإشارات المهمة إلى عزم الطرفين على المضي في استمرار الدفء في علاقاتهما تبادل بوتين وأردوغان منذ أيام التهاني بذكرى مئة عام على العلاقات الدبلوماسية بينهما، حسب موقع الكرملين.

وما من شكّ في أنّ نظرة عميقة إلى تاريخ العلاقة التي بنيت بين الاتحاد السوفييتي وتركيا الوليدة، تعزّزت في ظلّ وجود شخصيتين قويتين هما كمال أتاتورك والزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، لكنها تراجعت مع رحيل أتاتورك، وانقطعت عملياً مع انضمام تركيا إلى حلف شمال الأطلسي. واللافت أنّ العلاقات شهدت تحسنا كبيراً في جميع المجالات مع صعود نجم أردوغان وبوتين في قيادة بلديهما، اللذين استطاعا، على الرغم من ثقل التاريخ واختلاف المشارب الفكرية، بناء علاقات أقرب إلى الاستراتيجية في كل المجالات، وتوصلا إلى إيجاد حلول لمشكلات معقدة عبر اتباع سياسة البراغماتية وفصل المسارات. والمؤكد أنّ الأزمة الليبية بتعقيداتها وتشابكاتها الإقليمية والدولية مثّلت اختباراً جديداً لزعيمين يسعيان إلى أن يلعب بلداهما دوراً عالمياً أكبر، ويشعران بامتعاض من أن الغرب يضع عراقيل لمنعهما من استعادة مكانتهما اللائقة.