في مقابل قراءة المجتمعات الديمقراطية لدور وسائل الإعلام كدعامة رابعة لها، يُصر أتباع بعض الأنظمة العربية الرسمية على التذاكي على الشارع العربي، الذي لم تعد تنطلي عليه مقولة استقلال وسائل إعلامه وصحافته، أو أنها لا تعكس سياساته، حتى لو أطلت من عواصم حرية التعبير والصحافة في الغرب، ومن عواصم "السعادة" و"الإيمان" العربية.
وأن يكون للبعض ملاحظاته على التجربة التركية، والرئيس رجب طيب أردوغان، فذلك حقه. لكن أن يخرج علينا أتباع أكثر الأنظمة قمعاً واستبداداً، ومقتاً للديمقراطية والحريات، متشفياً بخسارة حزب لدى "الأشقاء الأتراك"، ومبجلاً "ديمقراطية المجتمع الإسرائيلي"، فتلك ليست دعابة بل مصيبة أخرى من مصائبنا العربية. وتُعد طريقة تغطية "الديمقراطيين العرب الجدد"، من الرياض إلى أبو ظبي فدمشق والقاهرة، وغيرها، لانتخابات ديمقراطية محلية، أحد أفضل الأمثلة، وليس أوحدها، عن السياق البائس لانفصام سياسي مرعب، وكمُعبر عن حصاد الخيبات. الأمر يتداخل بترويج بعضهم "الأسرلة" كضرورة، ممارسةً وخطاباً، مفتوناً برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو وبقية من يسفك الدم العربي، وتشجيعهم شعبوية ناشئة وناخرة للاستراتيجيات والتكتيكات والمصالح العربية، خصوصاً في ادعاء مواجهة مشاريع إيران التوسعية، ومعاداة تركيا في المقابل.
بالتأكيد، لا تغيب عن "ديمقراطية" معسكر "الأسرلة"، إلى جانب عوامل أخرى كثيرة، آثار اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والتنافس الفاشل على كسب الشارع، ومواقف تركيا من "الأزمة الخليجية" والقضيتان الفلسطينية والسورية، والانقلاب في مصر، للاستنتاج أخيراً أن تركيا "تتدخل" بذات الخطر والقدر الإيراني. ويستثنى هنا بالطبع الإسرائيلي والروسي والأميركي، فتلك تصبح من "التدخلات المحمودة"، ومدفوعة الثمن، وباستجداء لا مثيل له في ممارسة "السيادة".
نحن أمام تكرار ذات الفشل، وبالتكتيكات نفسها. ففي تمعن مواطن عربي بالتجربة التونسية وقوله "أعطونا نظاماً ديكتاتورياً كتركيا"، وليس "ديمقراطية" تل أبيب، ولا حتى طهران، ما يختزل دلالات هذا الفشل، الذي تصر عليه الأنظمة وأدواتها، والتي لم تعرف يوماً، حتى انتخابا حرا لنقابة فنانين، فما بالك بممثلي الشعب؟ على كلٍ، فإن احتقار الحس السليم للعربي لم ولن يحصد منه "المتأسرلون" سوى سراب، مع موجات لن تتوقف للتطهر الذاتي مما علق بنا منذ انتهاء عصر الاستعمار.