يكشف تلفيق ملف العمالة للممثل والمسرحي اللبناني زياد عيتاني، منذ 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، حتى ليل الثاني من مارس/آذار أمس، حجم الاهتراء في منظومتي الأمن والإعلام في لبنان، واستسهال جزء واسع من الجمهور اتهام الخصوم السياسيين بالعمالة لإسرائيل.
وقد ساهمت معادلة ثلاثية الأطراف في فبركة (أصبح الحديث عن الفبركة بديهياً بعد اعتراف وزير الداخلية اللبناني نهاد المشنوق ببراءة عيتاني) ملف عمالة عيتاني، وقوام هذه المعادلة هي: جهاز أمني يبحث عن إنجاز، ووسائل إعلام جاهزة لنسخ بيانات الجهاز الأمني الضعيف ولصقها على صفحاتها، ورأي عام لا حصانة لديه حيال كل خبر مثير وكل وشاية بحق شخصيات عامة.
تبدأ القصة من نهايتها، أي من إعلان وزير الداخلية اللبناني براءة الشاب الذي نُكّل به داخل السجن وخارجه، جسدياً ومعنوياً، ليُفتح فصل شديد الخطورة يتعلق بوضعية حقوق الإنسان في لبنان والحريات، وبمناقبية بعض الأجهزة الأمنية، وباستغلال ضابط رفيع المستوى في هذه الأجهزة الأمنية نفوذه وسلطاته عبر اختراع ملف بهذه الخطورة، وتجنيد "هاكر" إلكتروني لفعل اللازم تقنياً بشكل موازٍ لانتزاع "اعترافات" تحت التعذيب، تجعل من المعتقل عميلاً لإسرائيل ومخططاً لسلسلة اغتيالات لوزراء وسياسيين.
خلق خبر توقيف زياد عيتاني في 24 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي اضطراباً عاماً في لبنان، وتكرر نفس السؤال على لسان الكثيرين: "إذا كان زياد عميلاً، فمن ليس كذلك؟". وينتمي عيتاني إلى أكبر العائلات البيروتية عدداً، ويُعتبر من الشخصيات العامة والمؤثرة بعد نجاح المسرحيات التي مثّلها مُنفرداً خلال السنوات القليلة الماضية.
وقد برز توقيف عيتاني على يد جهاز أمن الدولة (أحد الأجهزة الأمنية العديدة والمتنافسة في لبنان) بعد أشهر قليلة على خوض وزراء مسيحيين معركة طائفية لضمان استمرار تمويل الجهاز رغم رصيده الأمني الضعيف مقارنة مع باقي الأجهزة الأمنية التي تتوزع مرجعيتها السياسية بين أقطاب الحكم القائم على أساس التوزيع الطائفي للحصص في الدولة. كانت الحُجة الوحيدة لهؤلاء الوزراء أن إبعاد مدير أمن الدولة عن الخريطة الأمنية للدولة يعني تهميش المسيحيين الكاثوليك، وهي الطائفة التي يُسمّى مدير الجهاز منها وفقاً للمحاصصة الطائفية، بينما يقضي العرف أن يكون نائبه من الطائفة الشيعية. كان الجهاز بحاجة إلى رافعة أو إنجاز يعيد إليه اعتباره بين أقطاب الطوائف في الحكومة، وربما كان زياد عيتاني هو هذه الرافعة.
سارعت وسائل إعلام قريبة من "حزب الله" إلى تسريب محاضر التحقيق الكاملة معه بشكل مذهل، ذلك أن تسريب المحاضر كان يحصل مباشرة على الهواء بعد دقائق من انتهاء التحقيق مع الموقوف، من دون أي مراعاة لسرية التحقيق أو لقرينة البراءة التي يُفترض أن تحمي كرامة وحق الموقوف حتى صدور الحكم ببراءته أو تثبيت الجُرم عليه.
وعلى مسافة غير بعيدة، كان جمهور لبناني واسع وعابر للطوائف والانتماءات السياسية جاهزاً ومُعبأً للتشهير بعيتاني والتشّفي من بيئته الاجتماعية والسياسية التي تحوّلت بأكملها إلى "بيئة حاضنة للعملاء" في عيون هؤلاء.
وفي زحمة التماهي التام بين وسائل الإعلام المُتعاملة مع جهاز أمن الدولة وبين جماهير جاهزة دوماً لشيطنة الخصوم السياسيين، انقاد الرأي العام اللبناني خلف عمالة عيتاني المُفترضة.
وتحوّل الناشطون والصحافيون القلّة الذين شككوا في بيان "أمن الدولة" إلى "مُتواطئين مع عميل". قرأ هؤلاء بيان أمن الدولة المُطوّل والضعيف، الذي صدر بعد أيام من توقيف عيتاني بعد انتهاء تمرينه على مسرحيته الجديدة، على أنه تجميع لعدد من التُهم غير المنطقية، وتم زجّ اسم المدير العام للجهاز، اللواء طوني صليبا، فيه بطريقة دعائية فاضحة.
سأل المُنتقدون عن "غاية الموساد من تكليف عيتاني بالتحضير لعملية اغتيال شخصية سياسية هامشية كالوزير السابق عبد الرحيم مراد"، أو عن "سبب اختيار الموساد التحضير لاغتيال وزير الداخلية نهاد المشنوق"، الذي تلقى تهاني رئيس الجمهورية ميشال عون فور الكشف عن "العميل" المفترض مثلما نال الضابط الذي نفّذ الاعتقال من جهاز أمن الدولة تكريماً مسلكياً بمنحه سنة أقدمية.
وكانت أكثر التُهم إثارة للاستغراب هي "تكليف عيتاني من قبل مُشغّليه بالتأسيس لنواة تطبيع ثقافي مع العدو الإسرائيلي"، لتُنشر في هذه الغضون مجموعة من أسماء لصحافيين هم من أصدقاء عيتاني، ليصبح هؤلاء أيضاً مشتبهاً بهم في العمالة بالنسبة لطيف واسع من جمهور وسائل التواصل الاجتماعي. ولم يكن لهذا المشهد أن يكتمل من دون تسجيل إحدى الصحف المحلية سقطة مهنيّة تختصر فداحة التعاطي مع هذا الملف، من خلال نشر صورة للممثلة الإسرائيلية، غال غادو، على أنها عميلة جهاز الموساد المفترضة التي نجحت في الإيقاع بعيتاني وتجنيده.
ومع تراكم التساؤلات وغياب الأجوبة، لجأ جهاز أمن الدولة إلى محاولة الحصول على غطاء من المرجعية السياسية والطائفية التي يُفترض أن عيتاني ينتمي إليها، وهي رئاسة الحكومة اللبنانية. زار اللواء صليبا رئيس الحكومة سعد الحريري، فسحبت تلك الزيارة وبشكل تلقائي "الغطاء السُنّي" عن عيتاني. تحوّل الرجل بعدها إلى هدف سهل لوسائل الإعلام، خصوصاً تلك القريبة من "حزب الله"، ولم يوفّر العاملون في تلك المؤسسات أي جانب شخصي في حياة عيتاني إلاّ وتطرقوا له، حتى تم التطرق إلى الحياة الزوجية لزياد، وإلى نشاطه الجنسي.
طالت مُدة التوقيف وتقلّص حجم "ملف العمالة" ليصبح "ابتزازاً جنسياً من ضابطة الموساد لزياد عيتاني مقابل تعامله مع العدو". وبعد أن انتهت مرحلة الاستثمار الإعلامي، تمكّنت شعبة المعلومات في قوى الأمن الداخلي (الجهاز الذي بنى لنفسه رصيداً في كشف الجرائم الإرهابية والاغتيالات السياسية وخلايا التجسس للعدو الإسرائيلي...) من استلام الموقوف ومُباشرة التحقيق معه. انتقل عيتاني، بالمعنى الطائفي، من عُهدة "جهاز أمني مسيحي" إلى عُهدة "جهاز أمني سنّي"، فتغير أسلوب التحقيق وتغيرت معه النتيجة، وذاك وجه آخر من المأساة اللبنانية.
نقل مُتابعون لملف عيتاني مُفاخرة بعض عناصر أمن الدولة بالإساءات اللفظية والتعنيف الجسدي الذي تلقاه الرجل أثناء استجوابه. وفي شذوذ غير مألوف عن قاعدة "انتهاج التعذيب في مُختلف الأفرع الأمنية والعسكرية واللبنانية" (بحسب بيان لـ"هيومن رايتس ووتش")، مرت أيام توقيف زياد عيتاني في زنزانة شعبة المعلومات من دون عنف بتاتاً على ما تفيد معلومات مؤكدة لـ"العربي الجديد".
لجأت شُعبة المعلومات إلى التحليل التقني والفني لحركة واتصالات الموقوف، ولم يتم إثبات أي من الاعترافات التي أدلى بها زياد خلال توقيفه لدى أمن الدولة. ونتيجة لذلك، أعلن المُحامي رامي عيتاني، وهو أحد من تولوا الدفاع عن زياد، أن "إطلاق سراحه سيتم قريباً جداً بعد سقوط كل التُهم عنه" وبعد ظهور خلو "داتا" الاتصالات لهاتفه ولحساباته الحقيقية على وسائط التواصل الاجتماعي من أي ممسك أو شبهة.
وسارع وزير الداخلية نهاد المشنوق، إلى إطلاق موقف على مواقع التواصل الاجتماعي أعلن فيه "اعتذار كل اللبنانيين من عيتاني". ولم يتطرق الوزير إلى أي "إجراء رسمي" سيلجأ إليه لرد اعتبار زياد معنوياً وأخلاقياً وقانونياً ومادياً بعد حفلة التنكيل الذي تعرض لها طيلة أكثر من ثلاثة أشهر. علماً أن المشنوق يُمثّل إلى جانب منصبه الوزاري، أبناء بيروت بصفته نائباً عن العاصمة في البرلمان.
لكن الموقف الشعبوي تضمن إشارة لافتة مع الوعيد الذي أطلقه المشنوق ضد "الحاقدين والأغبياء والطائفيين الذين لم يجدوا غير هذا الهدف الشريف، البيروتي الأصيل، العروبي الذي لم يتخلّ عن عروبته وبيروتيته يوماً واحداً"، وذلك في إشارة على ما يبدو إلى المُقدّم في قوى الأمن الداخلي سوزان الحاج، التي كانت تترأس مكتب مكافحة جرائم المعلوماتية قبل أن تُعزل من موقعها بسبب إعجابها بتغريدة مسيئة للمرأة السعودية وللنظام السعودي.
كانت التغريدة حينها تتعلق بقرار السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة، فغرد الممثل الشعبوي شربل خليل بأن قرار السماح محصور بقيادة "السيارات المفخخة"، فأُعجبت سوزان الحاج بهذا الكلام، فالتقط أحدهم إعجابها هذا (like) واسمه زياد عيتاني، قبل أن تحذف الحاج الـ"لايك" من حسابها. وتتقاطع المعلومات حول أن تلك التغريدة والإعجاب وتشابه الأسماء بين زياد عيتاني المُمثل، وزياد عيتاني الصحافي المُقربّ من وزير العدل السابق أشرف ريفي، هي مربط الفرس في كامل الملف، لأن الحاج أطيحت من منصبها بعدما نشر زياد عيتاني الآخر، الصحافي وليس المسرحي، "لايك" الحاج، فقررت الانتقام، من دون أن تميز بين "الزيادَين"، وهو ما حصل بالفعل.
وسوزان الحاج ضابط رفيع المستوى وصاحبة نفوذ كبير في لبنان، وظلت فترة طويلة متخصصة في التحقيق مع الناشطين في وسائل التواصل والإعلاميين في المواقع الإلكترونية، بما أن القانون قاصر عن تنظيم مهنة الإعلام الإلكتروني وكوكب "السوشل ميديا" في لبنان. هكذا، طلبت الحاج، بحسب ما صار متداولاً في لبنان، من أحد "الهاكرز" الذين يتعاملون مع جهاز قوى الأمن الداخلي، اختراع حساب على "فيسبوك" لزياد عيتاني الممثل، واختلاق حديث مع مشغّلة مفترضة من الموساد تقرر تسميتها "كوليت"، وإلصاق التهمة بالشاب، وهكذا كان.
وليل الجمعة الثاني من مارس، تسرّب خبر استدعاء المقدم سوزان الحاج للتحقيق في مديرية قوى الأمن الداخلي، ولم تمر سوى دقائق حتى غرد وزير الداخلية معتذراً من عيتاني، لتكرّ بعدها سبحة تسريبات أمنية عن أن ملف اتهام زياد عيتاني مختلق بالكامل.
على ما يبدو إذاً، ومن دون استباق التحقيقات، فإن الكيدية المُفترضة للحاج قد تقاطعت مع حاجة جهاز أمن الدولة لإنجاز يحميه طائفياً، فحوّلت بعض وسائل الإعلام زياد عيتاني من أب وزوج ومُمثل إلى عميل. وإن استعاد عيتاني بعضاً من اعتباره بعد تبرئته، يتوقع الإفراج عنه في غضون ساعات بما أن هذه الخطوة تحتاج قراراً قضائياً كون الشاب تم الادعاء عليه. والقرار القضائي يصعب أن يصدر خلال عطلة نهاية الأسبوع (السبت والأحد في لبنان يوما عطلة رسمية). وفي غضون ذلك، فإن معالجة المشاكل البنيوية في الأجهزة الأمنية اللبنانية ومحاسبة كل من تواطأ وحوّل الاتهام بالعمالة إلى سلاح للاستهلاك الداخلي، تبدو مهمة مؤجلة.