رجْع صوتنا

رجْع صوتنا

28 فبراير 2016
(لفتا في 2015، تصوير: ناتالي حنظل)
+ الخط -

الساعة الرابعة. حريق أخرى تضطرم من بعيد. لا أستطيع إغلاق عيني، ولا أطيق الاستمرار في تكرار النظر إلى بقايا الأجساد الصغيرة. صيحة مجلّلة ببكاء، بحر من وراء القلب، ظلال من تحتها ظلال. الجزمات تدفع الهواء خارج الأسطح. والتهديد في كل الأرجاء، حتّى في رزمة الأوراق أمامي.

لا أستطيع النوم لأنّ الخوف يجتمع مع حماسة لا تخبو لمقاومته فلا يترك لي أي فرصة للحذر؛ والزمن هنا بات خارج الزمن. نجد طرقًا عجيبة لنتجاوز كل جرح بينما يحاول الليل الهرب من الموت الذي سيستيقظ عليه. أنتظر الأذان. الشمس لتشرق. أجراس الكنيسة لتدقّ. إنّني في بيت لحم.

المسيح ولد هنا، ولكنّي لم أره منذ حين. الأمر يتعلّق بعدم الحصول على تصريح. إنّه صيف 2014، وإسرائيل تشنّ حربها الثالثة على غزّة في ست سنوات. نحتاج دقيقة واحدة كي ترتاح قلوبنا من سرعة النبض. دقيقة واحدة وحسب. ولكن هنا، الدقيقة الواحدة قد تعدل حياة كاملة. لا أحد يتمكّن من الوصول إلى العزاء في الوقت المحدّد كي يحزن كما يجب.

أجلس قرب النافذة حيث أنا منذ ساعات، لم أعد أستطيع عدّها. رزمة الأوراق على الطاولة أمامي لم تُلمس. أشعر بما شعرت به مرّة وأنا أقف وسط بيّارة في يافا، أمسك برتقالتين في كلّ يد: الشعور حينها تحوّل إلى صوت، صوت رسم خارطة الماضي. بزاوية عيني ألمح الغيوم تغازل الشمس، على وجهي وبجانبه. فأبدأ بالكتابة عن "لفتا".

إنّها من أحبّ الأماكن إليّ، وهي من أجمل القرى الفلسطينية في منطقة القدس قبل عام 1948. أهل لفتا إمّا طُردوا منها أو نزحوا عنها، وما تبقّى من القرية ما يزال مهدّدًا دومًا بمزيد من الدمار.

كثيرًا ما أسير بين الأراضي الجبلية الوعرة مع صديقتي من القدس، تاركين الحجارة، كأنّها مجموعات من النجوم، تدلّنا على الطريق. نحافظ على صمتنا. ما الذي يمكن أن يقال في خضمّ كل هذا الجمال، هذا الرعب، هذا الحزن، هذا الحب. الأزهار البريّة تتحدّث إلينا. تتحدّث إلينا أزهار الياسمين والخزامى. بيوت الحجر الخاوية، جواهر تراثنا، وهويتنا وثقافتنا، تتحدّث إلينا.

أشجار الزيتون تتحدّث إلينا. الطواحين تتحدّث إلينا. الربيع القديم يتحدّث إلينا. الأشباح التي تحوم في القرية تتحدّث إلينا. العروس وعريسها من عام 1947، لم يشيخا يومًا، يتحدثّان إلينا. ونحن نستمع. جلّ ما نفعله هو أن نستمع، فنسمع: "لم يعد هناك ما نخسره"، ولكن ما من قوّة تمكّنت يومًا من سلب الذاكرة.

الكتّاب يحرسون الذكريات. نلمح عصفور الشمس الفلسطيني. على طرفي صدره خصلات ريش برتقالية. أخبرتني صديقتي أنّها كانت تبحث عن هذه العصافير في طفولتها، وأنّ عصفور الشمس هذا ذكر، لأنّ ريشه الأسود يبدو أزرق لامعًا في الشمس.

بدت تلك الزرقة مثيرة حدّ أنّها عُمّيت علينا كما القصيدة حين تظهر مبهمةً على الصفحة. نجلس تحت أحد أقواس البيوت القديمة، نتّكئ على الحجارة، نستبرد بها. هذه القرية سيمفونية مكتملة من الأخضر الباعث على السكينة والذهول. المساحات الجافّة بينها تشبه صفائح من القش، قاسية وتبعث على الغناء، فأحفظ لفتا.

ذهني يغيّر وجهته، وأفكّر في بيوت القدس المسلوبة غير بعيد من هنا، في أحياء الطالبية والقطمون والمصرارة، تلك الأحياء التي بحثت عنها أختي بألم وكشفت عن الكثير من تفاصيلها بكل وضوح في مشروعها الفنّي الوثائقيّ التفاعليّ "دريم هومز للاستشارات العقارية".

ومن ثمّ أتوقّف. الجمال ندبة، والتاريخ غرفة، والحنين عاصفة.
المقاومة هي رجع صوتنا.


(كاتبة وأكاديمية فلسطينية/ نيويورك، ترجمة: محمد زيدان)


اقرأ أيضاً: مائدة منى حاطوم 

المساهمون