"شكراً أيها المعلّم": الكاميرا الوثائقية كفعل سياسي

"شكراً أيها المعلّم": الكاميرا الوثائقية كفعل سياسي

23 يونيو 2016
فرنسوا روفّان، باريس، نيسان/ إبريل 2016 (تصوير: جويل ساجيه)
+ الخط -

لا نعرف إن كان فرنسوا روفّان قد توقّع أن تستمرّ عروض فيلمه الوثائقي "شكراً أيها المعلّم!" حتى اليوم. لا يتعلّق هذا الشكّ في مستواه، بالتأكيد، بل في محتواه، وفي إمكانية وصول المحتوى إلى الناس.

يعرّي الفيلم، في الحقيقة، إمبراطورية المال والسياسة، التي تمسك بفرنسا بقبضة حديدية. لذا، وجد العمل صعوبات في الوصول إلى صالات العرض، والتلفزيونات والإذاعات وصفحات الجرائد، وهذه كلّها تقريباً، بالإضافة إلى عشرات المجالات الأخرى، تعود ملكيّتها إلى عدد قليل جدّاً من الأشخاص، من "أهمّهم"، أو من أكثرهم ثروةً، برنار أرنو، الرجل الذي يقصده الفيلم بعبارة "المعلّم".

من خلال بطلي شريطه، وهما زوجان طردتهما إحدى شركات أرنو قبل سنوات، يتسلّل روفّان، بخفّة هائلة، إلى إمبراطورية الملياردير، فاضحاً وحشيتها وتسلّطها، وفسادها المرتبط بفساد في أعلى مراتب الدولة.

الحديث عن صعوبة وصول الفيلم إلى الناس يدفع إلى التساؤل عما إذا توقّع مخرجه تجاوز هذه الصعوبة، لأن قضيّة استقبال الفيلم تعدّ مركزية، ليس بالنسبة إلى "شكراً أيها المعلّم!" فحسب، بل أيضاً إلى الحراك المعارض الذي تعرفه شوارع وساحات فرنسا منذ أشهر.

مادة الفيلم تُشكّل محفّزاً للحراك في بداياته، وبات شائعاً أن تشهد اعتصاماتٌ ونقاشات عروضاً له في الأماكن العامة، وأن تحتوي مظاهرات شعاراتٍ مرتبطة به. كما أنه لم يعد مفاجئاً ارتداء بعض المتظاهرين قمصاناً مطبوعةٌ عليها صورة الملياردير أرنو (تزيد ثروته على 33 مليار دولار أميركي)، وإلى جانبها عبارة "شكراً أيها المعلّم!".

إذاً، لم يكن الفيلم مهيّأً، عند إطلاقه، لبلوغ "جمهورٍ كبير"، يتعدّى المقرّبين والمهتمّين، من صحافيين وناشطين وأفراد تبرّعوا، عبر أحد مواقع التمويل الجماعي، بـ21 ألف يورو، لإنتاجه. أولى عروضه تدفع إلى الاعتقاد بذلك، إذْ تُقام في قرى وبلدات "نائية"، وفي تجمّعات ثقافية ونقابية، "هامشية" بالمعنى الجماهيري، لا يتجاوز عدد حاضريها أصابع اليدين أحياناً.

لكن، نظراً إلى مادّته التي تكشف بالدليل (الصورة) وحشية رؤوس المال الضخمة، وتواطؤ السياسة معها، فإنه صار يحجز مساحات أوسع، ويصل إلى المدن الكبرى، ويحقّق نجاحاً استثنائياً، ببلوغ عدد مشاهديه، حتى اليوم، نحو نصف مليون.

كأنّ حال "شكراً أيها المعلّم!" يقول: "إذا أردتم منعي من الدخول عبر الشبّاك، شبّاك التذاكر أو شبّاك الصحافة، فسأدخل من الباب الواسع، أي الساحات والشوارع". غير أن الحديث عن منْعٍ هنا ليس مجازياً. إذ جرى، فعلاً، حظر تناول الفيلم والكتابة عنه، ومنع استضافة مخرجه في عدد من وسائل الإعلام، التي تعود ملكيّتها إلى "مجموعة ل. ڤ. م. ه." العملاقة، المملوكة من قبل برنار أرنو نفسه، أو في وسائل إعلام تملكها مجموعات أو شركات "صديقة" له.

تبدأ الحكاية في شمال فرنسا، الذي كان يُعرف، حتى السنوات القليلة الماضية، بـ"مصنع فرنسا الأول"، لاحتوائه على عدد كبير من المعامل. لكن الأمور تغيّرت اليوم. جزء من هذه المعامل أغلق أبوابه نهائياً، وجزء آخر طرد عمّاله، وانتقل إلى بلدان أخرى، بسبب "رخص" الإنتاج واليد العاملة فيها، ما يُساعد على مضاعفة الأرباح.

جوسلين وزوجها سيرج كلور طُردا من عملهما، إثر انتقال المصنع إلى بولندا. يلتقيهما روفّان أثناء تحقيقه، كصحافي، في قضية صرف موظّفين من معامل الشمال تعسّفاً من دون منحهم التعويضات التي يستحقون. يقنعهما بأنه ينوي مساعدتهما على تحصيل حقّهما.

لكن، بدلاً من تناول القضية في تحقيق مكتوب ينشره في المجلة التي يعمل فيها، "فقير"، يقرر الصحافي إجراء التحقيق بالكاميرا. فتتحوّل المستندات والحقائق، التي يُفترض بها تقوية المادة الصحافية باستخدام اقتباسات، إلى صوَر مرئية لا يمكن الشكّ في مصداقيّتها. فكرةٌ لا تعيد إلى الزوجين البسيطين حقّهما فحسب، بل ترصد مثالاً حيّاً عن الفساد في فرنسا.

عبر حيَل عديدة، تبدأ بادّعائه حبّ الملياردير أرنو، هو المعروف بعدائه له كصحافي تحقيقات، ولا تنتهي بتنكّره في شخصية ابن الزوجين المطرودين، ينجح فرنسوا روفّان بإيقاع إمبراطورية الرجل في الفخّ. يطلب من الزوجين أن ينفّذا خطّة محكمة ومضحكة، رغم جديتها، بينما يديرها هو من بعيد. تقضي الخطة بتهديد الزوجين أرنو بأنهما سيتوجّهان إلى مجلة "فقير"، في حال لم يتلقّيا تعويضاً عن طردهما من المصنع.

خوفاً من انتقال الملف إلى المجلة، وتحوّل القضية إلى فضيحة، يأتي مسؤول مقرّب من أرنو لمفاوضتهما على إغلاق الملف، والتراجع عن تهديدهما، مقابل تقديم تعويضات لهما، وإبرام عقد عمل جديد للزوج. بفضل كاميرات خفية، يتابع المشاهدون جلسة المفاوضات، التي يؤدّي الزوجان فيها الدور المرسوم لهما من قِبل روفّان، بحرفية عالية.

ويظهر المسؤول "الضخم" وهو يحذّرهما من التواصل مع المجلة، والعاملين فيها، خصوصاً روفّان، وينصحهما بالابتعاد عنها، إن رغبا في انتهاء الأمور كما يريدان. لن يتأخّر الفيلم عن كشف هوية المسؤول: ضابط سابق في المخابرات العامة، مقرّب من السلطة.

يوافق الزوجان، ويستعيدان حقهما. لكنّ الفيلم لا ينتهي هنا. إذ يكمل فرنسوا روفّان الحكاية، ويذهب بلعبته إلى أقصاها، موثّقاً، بالصور الحيّة، الفساد الذي ينخر جسد البلد.
هكذا، يصبح الفيلم نفسه، كمادة فنية، وثيقةً عن قدرة الكاميرا والصورة على القيام بفعلٍ سياسي.

ــــــــــــــــــــــــــ
احتجاجات الجندي الصغير
قد لا يصدّق متابع فيلم "شكراً أيها المعلّم" أنه باكورة أعمال مخرجه فرنسوا روفان (1975). عليه أن يعرف أيضاً بأن الفيلم ليس سوى تغيير في شكل التواصل، إذ يُعرف روفان كناشط يساري منذ عقدين، من خلال مقالاته في جريدتي "فاكير" و"لوموند ديبلوماتيك"، وخصوصاً في مؤلفاته التي كان أوّلها كتيّب "الجنود الصغار للصحافة". القاسم المشترك بين كل هذه الأشكال: حماية نموذج "دولة الرعاية".

دلالات

المساهمون