بيسان الشريف: "ذاكرة نساء" تحرسنا

بيسان الشريف: "ذاكرة نساء" تحرسنا

04 سبتمبر 2014
+ الخط -

في واحدة من خطب الآحاد التي كان يلقيها في لندن إبان الحرب العالمية الأولى، أسند الأب آساف مهمة ثقيلة إلى النساء. فبعد أن أثنى على شجاعتهن وصبرهن على فقدان الأحبة والتشرد من البيوت، استدرك: "ولكن، رغم كل هذا، من العار أن تنسينَ".

إنها حالة خاصة من العنف الذي تخلّفه الحرب، أن نحمل الذاكرة في كفة، وعار النسيان في الكفة الأخرى. على هذا الأساس، جرى تكليف النساء، في ذلك الوقت، بالإبقاء على نار الذكريات مشتعلةً؛ جُنّدت المرأة لحراسة الذاكرة.

قد يكون في مشروع المعمارية السورية الفلسطينية بيسان الشريف، شيء من هذا التكليف القديم المتجدد؛ إذ أعدّت المتخصصة في السينوغرافيا تجهيزاً فنياً وثائقياً، معتمدةً على شهادات سبع نساء سوريات هجرن من بيوتهن ولجأن إلى أماكن مختلفة. تجهيز "ذاكرة نساء" الذي يقتصر على استعادة تفاصيل البيوت، افتُتح الأسبوع الماضي في مدينة ليون الفرنسية.

نسمع في شريط الفيديو حكايات لسوريات لجأن إلى الأردن وألمانيا ولبنان؛ بعضهن شاركن في الثورة بشكل مباشر، وبعضهن تلقين الحرب كنبأ أو كواحدة من ضحاياها فقط.

أصوات "بطلات" العمل تتحدث عن البيوت التي تركنها في الماضي. كأن الكلام هو برهانهن على الحياة السابقة. هذه تصف تسلسل الغرف، وتلك تتذكر ديكور المطبخ، أو طاولة الدراسة. ثالثة تستعيد ضجّة باعة الغاز وصخب المخيم الفلسطيني. أما الأصوات المحيطة بحديث السيدات، فبدت مسالمة وحزينة، وكأنها برهان آخر على مرور الزمن: تكات الساعة، صوت المطر، العصافير بعد انتهاء المطر، ثم مزلاج بوابة حديدية.

تأخذ الشريف زوار عملها في محترَف "لا فاسون" رحلةً قسّمتها إلى ست محطات. أولاها فيديو "الهوية الشخصية"، وتقدّم فيه كل امرأة نفسها. وفيديو المحطة التالية يحكي "رحلة الخروج" وتفاصيل الطريق منذ مغادرة البيت حتى الوصول إلى المنفى. وفي المحطة الثالثة، يحضر البيت على شكل ذكرى عفوية وتفصيلية. وفي "خطة حياتي كانت، هلأ حياتي"، تقلب النساء طموحاتهن القديمة كأنها ألبوم صور، ويتحدثن مترددات عن الحياة الآن وهنا.

أما محطة "الأغراض"، فتستكشف ماذا يحمل الإنسان لحظة الهروب. نكتشف أشياء اضطرارية مشتركة يفكّر فيها كل البشر مثل مفاتيح البيت، وأشياء حميمة مما خف وزنه وسهل حمله، كأن تُحضِر إحداهن الكريم الذي أهدتها إياه شقيقتها. تفتحه من حين إلى آخر ولكن ليس لتستخدمه، بل لتستيعد ذكرى أختها. "بعد عشر سنين"، هي المحطة الأخيرة في تجهيز الشريف، وتحمل التساؤل: أين ستكون هذه النساء بعد عقد من الآن؟

يستخدم العمل الجدران أيضاً، حيث اقتباسات الشريف من كلام الشاهدات، وكأننا أمام نوع من الغرافيتي. هذا التركيب يرتبط بشكل وثيق بتجربة الشريف في سينوغرافيا المسرح. وقد يبدو العمل، لمن لم يره، مزدحماً؛ لكن مقاطع الفيديو ليست طويلة والتسلسل الذي تبنى عليه الحكايات، مع البساطة الشديدة في الصورة والصوت، تقول شيئاً آخر.

هذا التجهيز ليس الفيديو الأول للشريف؛ إذ شاركت أخيراً الفنان السوري محمد عمران في فيديو "بلا سما" الذي تناول تهدّم الأبنية وتلاشي المكان. أما في تجهيزها الحالي فيشارك المخرج المسرحي السوري وائل علي، الذي قدّم مسرحية "ما عم إتذكر" حديثاً، وكانت الشريف مصممة السينوغرافيا فيه، كما يشارك المخرج الوثائقي الفرنسي سيمون بوشيه.

وإن كان لانهماك الفنانين السوريين بالذاكرة في أعمالهم الأخيرة دلالة مشتركة، فهي أشبه ما تكون بمطالبة الذاكرة بالتعافي، والترميم والبرهنة على الماضي والعثور على مذاق المكان القديم ومعناه. إنها ذاكرة سورية يربّيها الفنانون، وتكبر ببطء في حرب جانبية ضد النسيان.

المساهمون