"بلاستيك": الرقص أو السحل في المتحف

"بلاستيك": الرقص أو السحل في المتحف

06 ابريل 2016
(من العرض)
+ الخط -

جلس زائر شاب أنيق الهندام رشيق القامة على الدرج إلى جانب الفنانة/ الراقصة التعبيرية. كان جسدها يتمدّد فوق أربع درجات رمادية اللون. جلس الشاب يتمعّن فيها ويبحث عن طريقة لمحاكاة عينيها اللتين توارتا داخل كرة رأسها التي طمرتها بين ذراعيها. ظلّ الشاب جالساً إلى جانبها وهي ساكنة، إلا من أنفاسها، يفصلهما حيّز أضيق من ظلال جسديهما التي اتحدت في تلك اللحظات.

بعد دقائق معدودة، تعب الشاب من الانتظار فمدّ يده المتردّدة للكز كتفها، لكنه تراجع عن الأمر في اللحظة الأخيرة ثم نهض وصعد إلى الطابق العلوي، والتفت مرة واحدة ليرى إذا ما غيّرت موضعها ثم ابتعلته قاعات المتحف.

هذا واحد من المشاهد التي يمكن رؤيتها خلال عرض الرقص التشكيلي الذي يُقام حالياً في متحف الفن المعاصر "موما" في نيويورك للفنانة القبرصية ماريا هسابي.

وفي حين يتكرّر عرض الراقصين إلا أن تفاعل الزوّار، يبقى متروكاً لهم وغير مدروس أو قابل للتكرار وإن تكرّرت بعض الأمور كاقتراب البعض من الفنانين وحتى نكزهم ومرور البعض الآخر بشكل سريع إلى هذه القاعة التي يقصدونها في المتحف الضخم أو تلك.

استخدمت هسابي لعرضها عنواناً حمّالاً للمعاني بالإنجليزية "ماريا هسابي: عرض تشكيلي" (Plastic). وهنا لعب على مفردة "بلاستيك" يتراوح بين المعنى الظاهر أي الفن التشكيلي/ النحت، ومعنى مادة البلاستيك المضرّة بالبيئة، كما أوضحت في إحدى الأمسيات التي ناقشت فيها عملها.

يقام العرض في ثلاث مناطق عرض (منصّات) مختلفة داخل المتحف. الأول مدخل المتحف والثاني على كنبة والثالث في أحد الأدراج التي تقود إلى ثلاثة طوابق وقاعات مختلفة. يستمر العرض لسبع ساعات يومياً يتناوب فيها الراقصون الـ 17 على أدوارهم.

وتؤكد هسابي أن العرض ليس عبارة عن رقص بالحركة البطيئة وإنما رقص يحدث ببطء، خصوصاً عند الانتقال من حركة إلى أخرى وأن الفرق بين الأمرين شاسع بالنسبة لها.

الرقص هنا أقرب منه إلى الزحف والسحل يحدث دائماً من أعلى الدرج إلى أسفله، يستخدم فيه الفنانون تقنيات جسدية عالية تظهر من جهة جمال أجسادهم الرياضية، ومن جهة أخرى رجفات حفاظهم على المواضع التي يتّخذونها في محاكاة لعمل فنّي ما موجود أو متخيّل.

يمكث الجسد/ الفنان في كل وضعية يأخذها ما بين عشرين ثانية إلى دقيقتين ومن ثم تأتي فترة الانتقال البطيئة للوضعية التالية والتي تفرض كذلك تقدّماً في النزول أو "السقوط".

هسابي الفنانة القبرصية التي تعمل غالباً في المسرح والرقص التعبيري والتجريدي تحاول في هذا العمل الجمع بينهما وأخذ الجسد إلى تقاطعات فيزيولوجية وفنية جديدة مع المكان والزمان. فإن نزول تلك الدرجات يستغرق الإنسان العادي بالمعدل حوالى عشرين ثانية لكن مع العرض قد تستمر عملية النزول/ الزحف لراقص بين ساعة إلى ساعتين تقريباً بحسب نوع العرض الذي يقوم به.

وفي العودة إلى علاقة الزائر بالعمل الفني المتجسّد هنا في جسد الفنان له تأخذنا هسابي إلى حوار وتفاعل أو نفور تام يمكن أن يحسّه كل من الراقص (العمل الفني)/ والزائر (المتلقي).

لكن هذه الأدوار تتبدّل عند تفاعل أو حتى إهمال الزائر لما يجسّده الفنان في تلك اللحظة، ما يجعل عملية التلقّي ليست فقط حكراً على الزائر بل هي عملية متبادلة بين الزائر والعمل الفني (الراقص)، وإن كان الراقص أكثر سيطرة على أدواته وردود فعله لأنه يمشي بحسب برنامج محدود وتصوّر معيّن للمسؤولة عن العمل.

لكن المثير في هذا النوع من الأعمال الفنية وعلى عكس المنحوتة المصنوعة من مادة جامدة والتي تكتمل بقرار صانعها وضعها في متحف أو عرضها إلخ، فإن هذا العمل يكتمل عندما يفنى، أي في اللحظة التي يصل بها الراقص إلى آخر درج ومن ثم يغادر وكأنه لوحة فنية خرجت عن طوع خالقها وذهبت إلى حالها لتذوب بين الزوّار الكثر.

المساهمون