الشقي المصري.. مثال الحلم والثورة

الشقي المصري.. مثال الحلم والثورة

16 ابريل 2014
عمل لـ رمسيس يونان (1913-1966)
+ الخط -

يبدو جورج حُنين (1914-ـ 1973)، في ذكرى مرور مئة سنة على ولادته، أكثر سورياليّة من مؤسّسي هذه الحركة أنفسهم، ومراسلاته مع أندريه بروتون تكشف في جانب منها عن حذاقة المفكّر وتقرنه قراناً عضوياً مع لوعة الشاعر ذي العبارة التي جمعت التألق مع التوتر في وحدة ناضجة.

المصري القبطي، الذي عاش مع بولا (زوجته إقبال العلايلي، حفيدة الشاعر أحمد شوقي، ورفيقته في منفاه لاحقاً)، كان يتكلم ويكتب بأكثر من لسان، وينحدر من ثقافة عالمية، وإنْ كانت اللغة الفرنسية مجال نباهته الأقرب والأوسع. وهو خاض في ذات الوقت في مسائل وإشكاليات تحيط بأكثر من فنّ وقضية.

بقي جورج حنين رابطاً بين الحلم والثورة، على وقع البديهة، كما هي العلاقة بين الخبز والطحين، وينشر في تبيان ذلك توضيحات مذهلة في ترابطها المتين. في العام 1937، بعد مرور 13 سنة على أول بيان للسوريالية كحركة تتجاوز نمط الفن الواحد، وتعلي من شأن المخيّلة وقوة الدافع الذاتي والغوص داخل النفس؛ كتب جورج حنين مقالاً رائعاً بُعيد انتحار رونيه كروفيل، يقول فيه:

"إذا نظرنا إلى السوريالية عن كثب نرى أنها تمثل المحاولة الأكثر طموحاً في عصرنا ضدّ التجهيلية. لقد التقطتْ، وجعلتنا نلتقط، أصواتاً جديدة وأساسية، أصواتاً من وراء الذاكرة، من وراء الضمير، استثارها السورياليون غير المكتفين بالمناداة بحرية الفكرة".

ربما لذلك لا يصح الوصف المتداول عن "حنين" بأنه "رائد السورياليين العرب" ليشار إلى قيمة عمله المميز وشخصيته الفريدة.

لم يسع الشاعر إلى الشهرة بل كتب من تحت الركام ولم يُرِد لصوته سوى أن يرفع الركام إلى مستوى الجمال الثابت. إنها حالة من يظل يحفر في الطبقة ذاتها كي يكشف عن وجهها المحتجب، لكن بأكثر من طريقة. ومقارنة بـ"شعراء فرنكفونيين" عرباً آخرين، مثل المصرية جويس منصور، واللبناني جورج شحادة؛ ثمة هالة سينمائية تحيط بصورة حنين، الذي يبدو ذا حضور طيفي.

من أهمّ نصوصه ما كتبه حول "أجراس بال" لـ "أراغون"، في شباط/ فبراير 1935، حيث تظهر دقة ملاحظته ونبرته الساخرة اللاذعة وقربه الشقيّ من الإنسان السياسي المطحون داخل شبكات حزبية أقرب إلى دكاكين للدعاية منها إلى حركات تحرر جدية وحقيقية:

"العمل الأدبي ليس إعلاناً انتخابياً. وهذا لا يعني أن الأدب لا علاقة له بالسياسة؛ فلا شيء أقلّ صحة من ذلك. لكن ما ينبغي قوله هو إن الأدب يتحفظ بحق التماس مع كلّ عناصر الحياة، أي مع السياسة بما أنها واحد من تلك العناصر، تماماً كالرياضة، أو الحلم، أو الصناعة.

لكن الأشياء تفسد حين لا يلتفت الكاتب إلى السياسة ولا يرى الحياة الاجتماعية من حوله إلا لصالح حزب واحد وبرنامج واحد. حينذاك لا يقوم إلا بالدعاية، وفي وسعه أن يقوم بها على نحو بارع أو بصورة بائسة، لا يهمّ.

من المفترض أن يمكث الكاتب على قمة يقوِّمُ بحرية من فوقها المجتمع والسياسة وبينهما الكائن الأساسي ـ الإنسان. فالدعوة إلى الحرية لا تهلّ من أعلى إلى أسفل، بل تبزغ من الأسفل إلى الأعلى؛ ومَن لا يرى في السياسة غير الحزب، ولا يرى في الإنسان غير الحزبي، يبقى ما دون الهمّ الإنساني".

لم يكن حنين قد تجاوز الثانية والعشرين من عمره حين تعرف على نيكولاي بوخارين عبر قراءة كراسه الشهير "المشكلات الأساسية للثقافة المعاصرة"، فتأثر به تأثراً شديداً. وكان الكرّاس قد صدر في باريس ضمن سلسلة وثائق "روسيا الجديدة". لكنّ الألم الذي عاناه جرّاء المحاكمة الستالينية لواحد من أهمّ ملهميه، ثم إعدامه رمياً بالرصاص، في 21 آذار/ مارس 1938، دفعه إلى قطع علاقته مع أي مجموعة مرتبطة بالحزب الشيوعي السوفياتي.

وبعد عشر سنوات، وعلى أثر خلاف جوهري مع بروتون، قطع صلته بالحركة السوريالية، واختار الدرب الأصفى والأكثر جدارة به كشاعر، درب العمل في الوحدة، لكن لصالح الإنسان، أينما كان.


* شاعر من سوريا 

المساهمون