"ما وراء الجدار": دراما ساكنة ضد عنف الشرطة

11 يناير 2023
"ما وراء الجدار": إشارات ورموز عن أحوال إيرانية راهنة (الملف الصحافي)
+ الخط -

 

في ثالث أفلامه الروائية، "ما وراء الجدار" (2022)، يطرح الإيراني وحيد جليلفاند (1976)، بقوة وجرأة غير مسبوقتين، قضية وثيقة الصلة بما حدث مؤخّراً في إيران: عنف الشرطة. ينتقد بصراحة ممارسات الدولة القمعية، والأداة الرئيسية لبطشها، الممثلة بجهاز الشرطة العنيف، الذي لا يرحم. هذا يضع جليلفاند، من دون شكّ، في جهة المُعارضين الجريئين في السينما الإيرانية، كجعفر بناهي ومحمد رسول أف ومصطفى الأحمد.

مشاهد كثيرة في "ما وراء الجدار" ("ليل، داخلي، جدار"، بحسب الترجمة الحرفية الفرنسية للعنوان الفارسي) ـ لا سيما تلك المُتعلّقة بعنف الشرطة وقمعها وبطشها وعدوانيّتها، المُصمِّمة على سحق أي مقاومة بأي وسيلة ـ تستدعي، بشكل مُخيف، مُعاملة الشرطة للمتظاهرات/المتظاهرين في التظاهرات اللاحقة على مقتل مهسا أميني (16 سبتمبر/أيلول 2022). بصرف النظر عن الرؤية الاستباقية للمخرج، فإنّ جرأته في تقديم مَشاهد كهذه، غير مسبوقة في السينما الإيرانية، لافتة جداً للنظر، إذْ تُتيح معاينة الاحتجاجات، والاشتباكات الحامية، وقذف الحجارة، والردّ القاسي للشرطة بقمع التمرّد بشتّى الوسائل، كاستخدام قنابل مُسيلة للدموع، ورصاص حيّ، واعتقالات عشوائية، إلى حدٍّ يصعب معه تخيّل كيفية موافقة السلطات الإيرانية على إجازة سيناريو المشروع، والسماح بإنتاجه، ناهيك باحتمال عرضه في ظلّ الأحداث التي مرّت وتمرّ فيها إيران مؤخّراً.

من بين المحظورات التي يُركّز عليها "ما وراء الجدار"، وتناولها وحيد جليلفاند بفنيّة وجرأة تُحسبان له، تصويره محاولة انتحار البطل، وسرد تفاصيلها بدقّة مُتناهية، واحتراف فنيّ ملحوظ، في لقطاتٍ طويلة مُرهقة نفسياً لشدّة صدقها. يُفتتح الفيلم بمحاولة انتحار علي (نافيد محمد زاده)، الشاب الثلاثينيّ، بالاختناق الذاتي، في حجرة خرسانية متداعية، أشبه بزنزانة، مستخدماً قميصاً مبلولاً، وكيساً بلاستيكياً. يجهد في لفّ القميص حول عنقه، ووضع كيس البلاستيك على رأسه، ثم ربط معصميه بمقبض الدوش بشكل مؤلم. تلتقط الكاميرا هذا كلّه، لإجبارنا على المتابعة، بينما يتنفّس علي بتثاقل، ويتلوّى. يزداد المشهد صعوبة بشكل متزايد، إلى أنْ تُسمع طرقات قوية للغاية على الباب. تدفعه غريزته، والطرقات الهائلة، وانكسار الدوش، إلى تحرير نفسه.

سبب طرقات حارس البناية كامن في الاستفسار عن امرأة هاربة من الشرطة، دخلت البناية للاختباء. استفسار/سؤال الحارس غريبٌ جداًـ لأنّ علي شبه أعمى، يتخبّط بين الأثاث والجدران، عاجزاً عن توجيه نفسه في شقّته المظلمة، التي يعيش فيها بمفرده. أثناء ذلك، تتسلّل ليلى (ديانا حبيبي) إلى شقّته من باب خلفي مفتوح. الدم على ملابسها، والذعر في عينيها، يثيران تعاطفاً فورياً. تختبئ ليلى في شقة علي، محاولة البقاء من دون أنْ يكتشف وجودها. في النهاية، تخسر ليلى. لكنّ علي، الذي يتوق إلى رفقةٍ تساعده على التكيّف مع عالمه الجديد، لا ينوي تسليمها إلى السلطات. ربما لأنْ ليس لديه ما يخسره، أو لأنه محتاجٌ إلى صُحبةٍ وأمل.

لكنْ، ما جريمة ليلى بالضبط؟ لماذا تبحث عنها الشرطة؟ ما سرّ الرسائل الغامضة التي يتلقّاها علي، باستمرار، من امرأة غامضة من الماضي، مَدينة له بإنقاذ حياتها؟ لماذا هناك كاميرا مراقبة، مُثبتة مباشرة فوق مدخل باب شقة علي؟ لماذا يزوره دائماً طبيبه الفظّ ناريمان (أمير أغاي)، المتعاطف مع حالته؛ ومدير البناية الفضولي المتطفّل (دانيال خيرخاه)؛ ومفتّش الشرطة المُهدّد والمُرتاب (سعيد داخ)؟

 

 

تدريجياً، وعبر تقنية الـ"فلاش باك"، تتّضح قصّة ليلى، المُصابة بالصرع، وكيف قُبض عليها خطأ، مع زملاء لها يعملون في مصنعٍ، بسبب شجار عُمَّالي مُتعلق بالأجور المتأخّرة، تَحوَّل إلى شغبٍ هائل بسبب عنف الشرطة، ما أدّى إلى فقدان ليلى ابنها طه، المُصاب بالخرس، في الأحداث. لاحقاً، بسبب اصطدام شاحنة الشرطة بشاحنة أخرى، نجحت ليلى في الفرار. المشكلة الآن: كيف ستخرج من شقة علي، والبناية محاصرة؟ أين ابنها؟ هل ستعثر عليه؟

الأسئلة السابقة مغروسة، بمكر، في سرد مُحيِّر، ما إن يبدأ ترسيخ بعض الوضوح، يقفز إلى مستوى جديد من الحيرة، والقفز إلى الوراء، في الوقت المناسب، لإظهار أحداث سابقة، من وجهة نظر وسرد وتصوير مُختلفة. أدّى العنف والفوضى إلى وفاة مسؤول شرطة، فتعتقد السلطات أنّ لليلى يداً فيها. المشكلة أنّ لقطات الـ"فلاش باك"، المكرّرة أكثر من مرة، وبطرق مختلفة، تستغرق وقتًا طويلاً للوصول إلى نقطة مهمة، أو لحظة انكشاف. هذا يُبدِّد، بشكلٍ أساسي، الإثارة؛ ويصنع فتوراً في التوتر والتشويق السرديّين.

في "ما وراء الجدار"، تتراكم طبقات الزمن السلحفائي، والدراما الساكنة، والصمت الرتيب، إذْ يحدث القليل جداً. مثلاً: لا يحتوي الفيلم إلا على بضع جمل حوارية في أول 30 دقيقة. شخصيات الطبيب والضابط ومدير البناية، ذات البعد الواحد تقريباً، تظهر فترة وجيزة فقط لتحريك الدراما، وكسر الملل، وإثارة الصراع، وخلق التشويق. يأتي الكشف الحقيقي، لإنقاذ الحبكة المُحيّرة، بعد وقتٍ طويل جداً، في مرحلة أوشك الفيلم أنْ يفقد قوّته فيها. فبعد التواصل بين علي وليلى، لا يوجد الكثير. يعود الفيلم إلى قوّته بعد ظهور علي في لقطات الـ"فلاش باك"، في دور مُختلف، وبشخصيته الأصلية. يحافظ جليلفاند على الطبيعة الحقيقية لشخصية علي، مخفية حتى الدقائق الأخيرة. ربما يشعر بعض المشاهدين بالخداع والملل ونفاد الصبر. من هنا، مراهنة المخرج على طريقة السرد، وملء الفجوات، وإزاحة الستار في النهاية، خطرة جداً، إذْ تتطلّب اهتماماً كاملاً، وتركيزاً قوياً، وصبراً بالغاً من المُشاهدين.

يسهل استنتاج أنّ ما يجري في شقة علي، المتهالكة، صورة مصغّرة للدولة الإيرانية. الجدران الرمادية الجرداء البائسة، والتدخّل الشرس لأشخاصٍ مُتطفلين ومزعجين، والشعور الدائم ـ المثير للأعصاب ـ بالمراقبة. هناك أيضاً ضعف بصر علي، واليدان المرتعشتان، وانحناؤه، وندوبه المنتشرة في جسمه. صَرَع ليلى وخَرس ابنها يمكن اعتبارهما رمزاً فيزيولوجياً، يُحيل إلى عنف الدولة وقمعها وبطشها، وغيرها من أعطاب اجتماعية بالغة وعميقة، تضع المجتمع الإيراني المعاصر على المحك.

في "ما وراء الجدار" ـ المعروض في مسابقة الدورة الـ79 (31 أغسطس/آب ـ 10 سبتمبر/أيلول 2022) لـ"مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي" ـ كما في فيلمه السابق "لا تاريخ، لا توقيع" (2017)، يؤكّد وحيد جليلفاند على أنّ الحوادثَ والمآسي الإنسانية توحِّد الشخصياتَ والبشر؛ والتضامن والتضحية ومساعدة الآخر، بغضّ النظر عن التكلفة، سُبل الأمل الوحيدة في عالم قمعي؛ والروابط التي لا تتزعزع، حتّى التضحية بالنفس في ظلّ ظروف مستحيلة، بمثابة جُدران عصية، لا يُمكن لأي نظام ساحق، مهما بلغ بطشه، أنْ يلمسها أو يكسرها أو يخترقها.

المساهمون