فيلمان إيرانيان جديدان: اختلافٌ عن السائد سينمائياً واجتماعياً

16 سبتمبر 2022
نيكي كريمي: نجمةُ تمثيل وإخراج (محمد جمالي/Getty)
+ الخط -

 

نيكي كريمي نجمة إيرانية لم تكتف بالتمثيل. الإخراج وسيلتها لمحاولة تحقيق ما تحبّه في السينما، بأفكارها وأسلوبها، وهذا يمنح إحساساً أكبر بحرية التعبير عن الذات. في حوزتها اليوم أكثر من 60 فيلما كممثلة، و5 إخراجاً وكتابةً وإنتاجاً، آخرها "آتاباي" (2021)، المعروض في الدورة الـ9 (22 ـ 28 يونيو/حزيران 2022) لـ"مهرجان سينما/سينمات إيران" في باريس.

تسعى كريمي إلى خلق أجواء في أفلامها، بعيدة عن تلك السائدة في أفلامٍ تجارية كثيرة، مثّلت فيها. كأنّ التمثيل عمل، فيما الإخراج متعة أو هواية، تلجأ إليها لتعبّر عبرها عن نظرة خاصة للسينما، بعيدة عن التقليدية، ومُجسّدة لمشاعرها ورؤيتها. نظرة يمكن القول إنّها واقعية، مع لمسة شاعرية، تُبدي مثلاً أنّ "الحب وحده ينقذنا"، كما رسالة فيلمها الأخير. هي أيضاً تعطي للرجل، في أفلامها، حقّه في أنْ يكون مُحبّاً ومُخلصاً وحالماً، وليس دائماً خائناً ومُتهرّباً من المسؤولية، ولو أنّها، كما تقول، لا تُقرّر الموضوع قبل الكتابة، بل يأتي بناءً على أحاسيسها، وعلى ما يثيره أمرٌ ما فيها.

في"آتاباي"، يعيش كاظم (في منتصف العمر) في قريةٍ. يحيط بشخصيته غموضٌ، ينكشف تدريجياً، فيتبيّن أنّه ترك الجامعة بسبب خيبة عاطفية، وأنّه يلوم والده العجوز على تزويج أخته في عمر صغير لمن لا يستحقها. حزينٌ وغاضب في أعماقه لأسبابٍ كثيرة، أهمّها مقتل الأخت على يد زوجها. يُعبّر عن أحاسيسه بثورته على بعض محيطه، ومقاطعته لبعض آخر. لكنّ كريمي، كاتبة السيناريو مع هادي حجازي فرّ، أرادت لبطلها مخرجاً من أزماته الوجودية العميقة، وليس أفضل من الحبّ مرة أخرى لنسيان الماضي، وتهدئة الحاضر. تجعله يلتقي أختين تأتيان إلى القرية حديثاً، بعد شراء منزل فيها. يقع، ليس من دون مقاومة، في حبّ إحداهما.

الفيلم، في بضعة مشاهده، يُذكّر بأفلام عباس كيارُستمي، مع تصوير من علوٍ، وعلى بعدٍ، لطريق جبلية متعرّجة، وسهول ذهبية مترامية، أو في اختيار دورٍ للسيارة التي يقودها كاظم كموقع تصوير حوارات، أو لتنقّل مستمر. لا يمكن إلا الإعجاب بأمكنة التصوير هذه، لطبيعتها الساحرة، وجمالها، ولأجواء هدوء توحي بها، تتناقض مع حيوية شخصية كاظم وفورانها. المواقع في كردستان إيران، قرب عاصمتها "سنندج"، التي اكتشفتها كريمي بفضل كيارُستمي، مع أنّ القصة مُقرّر لها أنْ تجري في منطقة أذربيجان، التي اعتمد الفيلم لغتها الآذرية (التركية) في الحوار.

أكثر ما يتبقى من "آتاباي" سحر المكان، المُصوَّر بعدسة سامان لطفيان، بعد أنْ أُثقل السردُ بحوارات مطوّلة، وبوح مؤجّل، يزيد منه افتعال بعض المواقف. هذه الأفكار الغنية عن الحِداد والحبّ المستحيل والموت، وعن مشاعر الرجل وذاتيّته في مواجهة شخصيات نسائية أثّرت به (الحبيبة والأخت)، ودور الحبّ كوسيلة للتخلّص من أعباء ثقيلة تشلّ النفس، صاغتها نيكي كريمي ببعض ارتباك وإطالة في كشف أبعاد الشخصية، وماضيها وحاضرها. كثرة خصومات كاظم وغموضها، أحياناً، متاهة وعائقٌ أمام سردٍ، لم يتناسب بأسلوبه المتشابك مع بساطة القصة.

 

 

فيلمٌ آخر يُبرز تنوّع المواضيع المعروضة في المهرجان نفسه، الذي تُنظّمه جمعية مستقلّة في باريس، يرأسها المخرج الإيراني نادر تكميل همايون: "الغرق" (2020، "شناى بروانه" بالفارسية"، و"سباحة الفراشة" بالإنكليزية) للشاب محمد كارت (1986). يُمنع من هُم دون 15 عاماً من مشاهدته، لعنفه في تناوله مجتمع القاع السفلي للمدينة، والانحطاط الأخلاقي فيه. مواضيع تتكرّر في سينما إيرانية معاصرة، تتجذّر أكثر فأكثر في الواقع الفجّ.

الفيلم أول روائي لمحمد كارت، القادم من الوثائقي. تُفيده خبرته، المتأتية من اشتغاله أفلاماً وثائقية، في رسم حياة حيّ في طهران، يُشبه تلك الأحياء الواقعة جنوبي المدن الكبرى. هناك، تتشابه الأحوال والمصائر، وكارت شهد ما يحكي عنه، وعاشه في جنوب "شيراز"، ويعرف السياق الاجتماعي. لذا، فيلمُه انعكاسٌ للمجتمع الحقيقي، ما جعل وصوله إلى الناس في إيران بديهياً، إذْ مَسّهم، بعد تعرّفهم على واقعهم فيه. نجاحه ظاهرة، إلى درجةٍ أنّ مسلسلاً تلفزيونياً له (محمد كارت)، يُعالج القضايا نفسها، استفاد من هذا النجاح.

الفيلم عُرض في الدورة الـ38 (1 ـ 11 فبراير/شباط 2020) لـ"مهرجان فجر"، ونال جائزة الجمهور، و5 أخرى، منها جائزة أفضل دور ثان للممثلة طناز طباطبایی (بروانه)، وأفضل دور ثان لأمیر آقایی (هاشم). السيناريو (محمد كارت، مع حسين دوماري وبدرام بور أميري) غنيّ بالشخصيات والأحداث. يرسم، بعمق، خفايا عصابات الأحياء ومراكز القوى فيها، والمنافسات والأحقاد، والسعي إلى السيطرة والنفوذ لإخضاع السكان، وتنفيذ عمليات مشبوهة تتعلق بتهريب المخدّرات وغيرها. كأنّها منطقة مغلقة على من فيها، لا يتجاوز الأمن حدودها، وتُسيّر أمورها بنفسها.

ما مصير امرأة من هناك، بعد تسريب مقطع فيديو لها على الإنترنت، تظهر فيه مع تلاميذها في حمّام سباحة للنساء؟ الفيديو لبروانه، زوجة هاشم، عرّاب الحي. معه، أصبح هدف الزوج العنيف العثور على المسؤول عن ذلك، والانتقام منه. صاحب الفيديو استغلّ حبّ هاشم الشديد لزوجته، وأمسكه في نقطة ضعفه الوحيدة. قُتلت بروانه (تُلفظ بارفانه) بوحشية على يديّ زوجها، الذي كان ينشد طريقة لمسح عاره، واسترداد سمعته وكرامته، باعتباره الأب الروحي للحيّ. بعد توقيفه، ينطلق شقيقه حجّة (جواد عزتي في أداء متقن)، في رحلةٍ، في متاهات مترو الأنفاق في طهران، لمعرفة من المسؤول عن هذه اللعبة القذرة، التي أودت بحياة بروانه، وتسبّبت بزجّ أخيه في السجن.

قدرة "الغرق" على التعبير عن التحوّل الذي يطرأ على شخصية حجّة، من مميّزاته الأولى. من شخصٍ حنون ولطيف، يتجنّب المشاكل، رغم قدرته الجسدية، يتحوّل حجّة إلى وحشٍ لا يرحم، بعد عودته إلى عالم الجريمة ليقتفي آثار خصوم أخيه، ويصل مستوى عنفه إلى درجة قياسية، أثبت معها الفيلم فعاليته في رسم هذا العالم في الأحياء الفقيرة في طهران.

في مشهد مُهمّ ومفاجئ في السينما الإيرانية، تتبدّى حيرة حجّة وصعوبة اتّخاذ قراره بالتحوّل. جالسٌ نصف عار، وزوجته خلفه تساعده في الاستحمام، وتمسح على رأسه، وتطبع عليه قبلة. لكنْ، ليس في الأمر ثورة. فالممثلان زوجان في الواقع، والمهمّ أنّ الجميع في إيران يعرفون هذا. اختارهما محمد كارت لهذا السبب، فالمشهد أساسي، وهذا لا يمنع المفاجأة.

المساهمون