لم تكن سنة قاحلة

29 ديسمبر 2020
+ الخط -

في بداية الأمر، كنّا "نتفرّج" على كورونا في الصين، ثم في إيطاليا. في فرنسا، كان المسؤولون يتابعون الإعلان عن أنّ المرضَ "بعيد"، ثمّ بعد اقترابه من حدودهم، سارعوا إلى التأكيد على أنّ البلدَ جاهزٌ، والكمّامات غير ضرورية، وفي أيّ حال غير متوفّرة. تبيّن أنّه كلامٌ فارغ.

بعد تردّدٍ، قرّرتُ ـ في غمرة التحضيرات للذهاب إلى "مهرجان بنغلور السينمائي" منتصف فبراير/ شباط 2020 ـ أنّ شراء كمّامة ربما يكون مُفيداً في الهند. في الحقيقة، كان هناك شيءٌ من خجلٍ في شراء حاجة "غير ضرورية"، تُبدي خشيةً ما من مرضٍ، يخفّف المسؤولون من وقعه. المفاجأة الأولى كانت في خلوّ الصيدليات الباريسية تماماً من أيّ أثر لكمّامة. هل انتبه الجميع قبلي، وتهافتوا على شرائها؟ أم أنّها قليلةُ العدد أصلاً؟ مفاجأة أخرى حدثت، مع استغراب البعض، بل تحذيرهم من الذهاب إلى الهند في ظلّ هذه الظروف. لكنْ، مع هذا، الأجواء في باريس كانت تسودها خفّةٌ ظاهرة محبّبة، واستمتاع بعيشٍ، وصالات مفتوحة، ومقاهٍ مُشرّعة، وتحضيرات لمهرجانات.

في مدينةٍ يتخطّى عدد سكّانها ثمانية ملايين نسمة، ومع سبعين عرضٍ سينمائيّ في اليوم في صالات مركز تجاري ضخم، يصعُبُ الابتعاد عن الناس. لا شيء يُشير إلى خوفٍ أو حذرٍ من فيروس كورونا. لا شيء يُذكّر به، لا كمّامات أو تباعد. لا أحاديث أو عناوين صحفٍ.

هذا كان في بداية المهرجان. ثمّ، مع بدء "ظهور" الفيروس في الصحف، ووجوده في ولاية قريبة، اختفت الوجوه والتعابير خلف الأقنعة، وانقلبت الأجواء. لحسن الحظ، حدث هذا مباشرةً قبل انتهاء المهرجان بيومين فقط، وإلا: هل كنّا سنقدر على الاستمرار في مُشاهدة الأفلام، كأنّ شيئاً لم يكن؟ عشنا المهرجان اللطيف وأُنْسه، واستمتعنا بحسن الضيافة والتنظيم، وآنستنا الأفلام الهندية، الجيّد منها والرديء، ولو مؤقّتاً. هناك مشاكل في عالمٍ يتهاوى حولنا.

عند العودة، بدا "مطار شارل ديغول" خالياً. إحساسٌ بجوّ جديد، وبأعراضٍ مريبة فيه، وفيّ. هل جاء الفيروس بصحبتي؟ بعدها، قرّرت الحكومة إغلاقاً كاملاً لأسبوعٍ. كلّ شيء حصل بين ليلةٍ وضحاها. إلى يومٍ قريب، كان هناك عرضٌ لفيلمٍ مصري في "معهد العالم العربي"، ولآخر جزائري. كان المهرجان الوثائقيّ "سينما الواقع"، في باريس، يتهيّأ للافتتاح، وأتهيّأ معه للذهاب يومياً إلى "مركز جورج بومبيدو الثقافي"، حيث يُعقَد. لكنّ عصراً سينمائياً جديداً كان يتهيّأ لفرض نفسه. أُلغي مهرجان "سينما الواقع"، وبدأ يظهر ما بات يُطلق عليه "المهرجان الافتراضي".

العزلة والحجْر المنزلي المفروضان في فرنسا يشجّعان، في البداية، على تجريب هذا الشيء الغريب المستجدّ. عنوان أول هذه المهرجانات يبدو على نقيضٍ مع ظروف عرضه. أُريد لمهرجان "رؤى الواقع" أنْ يكون افتراضياً، بدلاً من الواقعي، أو الإلغاء. هكذا قرّر المهرجان السويسري للفيلم الوثائقي تنظيم دورته الواحدة والخمسين، المقرّر إقامتها نهاية إبريل/ نيسان 2020. فضول المتابعة ارتوى سريعاً. إلى جانبه، كانت تتاح يومياً أفلامٌ عدّة عبر الشبكة العنكبوتية. أحياناً، كانت فرصةٌ لا تُفوَّت لمتابعة ما فات، إلى درجة صار معها المرء يشعر بالتقصير، كأنّه موجودٌ مجدّداً في باريس، بعد أنْ غادرها. باريس تلاحقه بمعروضاتها وعروضها ومهرجاناتها، وهو يركض هنا وهناك، ولا يتمكّن من مُشاهدة كلّ ما يجب. في الريف، حيث وطأة الحَجْر أخفّ منها في باريس، غدت العزلة الريفية منافية لطبيعتها. حبيسةُ جدرانٍ مع  أفلامٍ على شاشة صغيرة تمنع الاستمتاع بشمسٍ مُشرقة لربيع زاهٍ، وبنموٍ مُفرح لبراعم جديدة، وتنشّق هواء رطب منعش.

باريس هي باريس، والريف هو الريف. لكلٍّ مجاله. طال الحَجْر، ومعه اكتشاف أنّ القدرة على مُشاهدة أربعة أفلام يومياً في أيّ مهرجان حقيقي، لا تتوفّر مع شاشة صغيرة. هذا شيءٌ آخر. بدأت الأمور تستعيد طبيعتها. التوقّف عن متابعة المهرجانات الافتراضية، والاكتفاء بفيلمٍ يومياً. السينما لا بديل لها. صالة العرض بالذات لا شيء يُماثلها. كان افتتاحها مجدّداً، بعد ثلاثة أشهر، مُرحّباً به، وإنْ مع كمّامة، وإنْ مع أمكنة أقلّ، ومخاطرة أكبر. الحياة يجب أنْ تستمرّ، والموت مقبلٌ لا محالة، فهل علينا انتظاره كفئرانٍ في مصيدة؟ ما أحلا الرجوع إليها، إلى وساعة شاشتها، حيث العين تسرح بالزوايا كلّها، وتركّز على ما تريد، وتبتعد عن البطل الأمامي لتجول حوله. كيف رُتِّب المنظر؟ كيف تصرّف الكومبارس؟ كيف كانت السماء؟

الشاشة الصغيرة، حتّى لو لم تكن صغيرة تماماً، لا تسمح بهذه الحرية. ما الذي يجري خارجها؟ كيف هم هؤلاء الذين سيشاهدون الفيلم؟ ما أثارَهم فيه، وما هي ردّة فعلهم؟ أين مَشاعر العودة مشياً من صالة السينما، مع استعادة لقطات ووقوع تحت تأثير أجواء؟ كأنّ باريس ليست باريس، بل مشهداً خرج من فيلمٍ. كأنّ ناسها كائنات أخرى تتلبّسها شخصيات الفيلم. أين الشاشة الصغيرة، بمحدوديّتها ومحدوديّة حركتنا، من هذا؟

كان حضور مهرجان وارسو السينمائي في بولندا نسمة منعشة

فرحةٌ أخرى. ها هم قرّورا، بعد تردّد، إقامة مهرجان "حقيقي" في وارسو. مهرجانٌ، كان حضوره نسمة منعشة، ليس فقط بسبب برد وارسو، بل بفضل أجواء سينمائية شبه عادية، وإنْ كان عدد الضيوف أقلّ، وكذلك الحضور، بسبب احترام التباعد في الأمكنة، وإنْ كان مع كمّامة خانقة أحياناً. لكنّ اكتشافات سينما أوروبا الشرقية أضاف متعةً إلى متعة الوجود هنا، بحدّ ذاتها. هنا، بعد غياب. هنا، أيضاً، ويا للصدفة، في اليوم الأخير، أعلنت وارسو "منطقة حمراء" بسبب كورونا. لكنْ، ألم تكن وارسو منذ زمن ليس بعيداً "حمراء"، كما علّق مدير المهرجان؟

سنةٌ بدأت بمهرجانٍ هندي، وانتهت بمهرجان بولوني. ما بينهما أفلامٌ كثيرة على شاشات حقيقية، وأخرى افتراضية. خسارة مؤقّتة لاستعادة كاملة لعباس كياروستامي في باريس، ومهرجان فجر في طهران، ومهرجان كيرالا الهندي، ومهرجان يريفان الأرمني، ومهرجان السينما الإيرانية في باريس، وغيرها. 
ليس بالوسع القول إنّه عامٌ قاحلٌ، سينمائياً.

المساهمون