فيلم "الأب": ماضي الأيّام الآتية

فيلم "الأب": ماضي الأيّام الآتية

15 ابريل 2021
حاز أنتوني هوبكينز جائزة "بافتا" أفضل ممثل عن دوره (Imdb)
+ الخط -

انطلاقًا من مسرحيته التي تحمل ذات العنوان، يصنع فلوريان زيلر، بالتعاون مع الكاتب كريستوفر هامبتن، فيلمه الأول، "الأب" (2020)، مصورًا معاناة رجل، وأب، متقدم في السن، مع ما يبدو مشابهًا لأعراض مرض الزهايمر، من دون أن يُذكر اسم المرض، ولا حتى لمرة واحدة عبر الفيلم. أنتوني، بطل فيلمنا، يعاني من فقدان تدريجي لذاكرته، ترافقه حلقات عديدة ومتقطعة من البارانويا وتقلّب المزاج والعصبية والقلق.

ونتيجة لحالته الطبية، يفقد أنتوني قدرته على العيش وحده، ما يدفع ابنته، آن، التي مثلت دورها ممثلة المسرح أوليفيا كولمان، إلى السعي لتوفير مقدمي الرعاية الصحية له بشكل مستمر. لكن أنتوني، الذي تمكن منه المرض عند هذه المرحلة، يرفض وجود ممرض/ة للعناية به، ما يصعب الأمر أكثر على آن التي تريد الانتقال للعيش في باريس. ومع التداعي المستمر لحالة أنتوني، تتخذ آن قرار وضعه في دار للرعاية الصحية.

سبق لـ أنتوني هوبكينز، آخر فرسان الشاشة البريطانية، أن جسد شخصية الأب عبر أدوار عدة، أشهرها "كينغ لير" بنسخة فيلمية من إخراج ريتشارد إير، لكن هوبكينز، المفترق تمامًا عنه ابنته آبيغيل هوبكينز، والذي تابعنا فيديوهاته المنزلية الأخيرة وهو يمضي وقتًا لطيفًا برفقة قطته "نيبلو"، أثناء الحجر الصحي، جعل تجربة الفيلم شخصية إلى أبعد حد، فبدءًا من اسم الشخصية وتاريخ ميلادها، وصولًا إلى تصريحات هوبكينز الأخيرة بأن التحضير للدور كان "سهلًا"، لأنه ببساطة يشبه، بطريقة أو بأخرى، ما يعيشه هوبكينز بنفسه اليوم.

يعمل الفيلم على مستويات عدة ومتلاحمة، واضعًا جوهر العلاقات الأسرية، خاصة تلك التي بين الآباء والأبناء، تحت مجهر فاحص، ويتركنا مع وابل من الأسئلة، بدلًا من تقديم إجابات جاهزة وعِبر معلّبة؛ كيف نستقبل دورة الحياة الحتمية؟ كيف نتعامل مع عالم بتنا لا نفهم حتى أبسط معادلاته، وتحولت فيه توافه الأشياء إلى معضلات عصية عن الفهم؟ والأهم من كل ذلك؛ كيف نتقن فن خداع أنفسنا ونتعايش مع المعارك الخاسرة؟ يصحو أنتوني في كل يوم ليجد عالمه وقد تغير من جديد، ولما بات عاجزًا عن شرح ما يمر به أو إيجاد أذن صاغية له، غدا صامتًا أمام انعدام المنطق، متواطئًا مع كل الأشياء من حوله، متآلفًا مع انقشاع عالمه وحلول آخر معقد جدًا بالنسبة له.

وفي حين يسلب أنتوني من كل أغراضه وممتلكاته شيئًا فشيئاً، إلا أن أكثر ما يخشاه هو أن يفقد ساعة يده، وهي الغرض الأكثر أهمية عبر الفيلم، ليست بوصفها دلالة واضحة على تشبث أنتوني بالزمن الذي ينسل من بين أصابعه فحسب، وإنما بما هي دليله الوحيد على "المكيدة" التي تحاك ضده؛ الجميع يسعى وراء سرقة ساعته وحرمانه من "تتبع" الوقت بشكل مستمر. لا يخشى الفيلم أن يدعو التقدم في السن "جحيمًا" لا مفر منه، ولا التعلق بالماضي بوصفه "لعنة"، أمر سبق أن اختبرناه برقة وصدق شديدين مع أفلام أخرى سبقت فيلم "الأب"، مثل فيلمي "آي دانييل بليك" و"نبراسكا"، يغدو فيها العصر سريع جدًا، يترك وراءه المتخلفين عنه، والناس يمرون بسرعة، يكاد فيها المرء لا يتعرف حتى على أقرب المقربين إليه.

أما الأبناء، فكيف ينقذون أنفسهم من دون الهرب؟ آن، التي تتلمس في السر ربطة عنق أبيها، وتذيبها كلمة شكر أو إطراء ينطق بها، عليها أن تواجه في وحدتها تبخر عائلتها إلى الأبد، وأن تغربل حب أبيها وتتغافل عن أذيته المستمرة وتفضيله الصريح لابنته الصغرى عليها، علمًا أن هذا السلوك قد يشكل علامة على الطريقة التي يعالج عبرها ذهن أنتوني التروما الناجمة عن وفاة الابنة الصغرى التي لعبت دورها برقة لا مثيل لها الممثلة إيموجين بوتس.

يبدو من الصعب، إن لم يكن مستحيلًا، تحديد الخط الزمني الذي يسير عبره الفيلم، أو معرفة تسلسل الأحداث، أو التحقق من صحتها، بشكل دقيق. إذ يروي المخرج قصة الفيلم عبر منظور أنتوني، فتتغير الشخصيات والأماكن، ويعيش المتفرج ذات حالة الشواش والتوهان الزمني والمكاني التي يعيشها مريض الزهايمر. هنالك بعض المشاهد "الموضوعية" في الفيلم طبعًا، أي التي تُروى عبر الكاميرا وتمثل منظورًا خارجيًا محايدًا، هو المخرج في هذه الحالة، لكنها مع ذلك غير كافية لوضع حكاية الفيلم ضمن مسار خطي دقيق.

صحيح أن رؤية أنتوني لابنته آن على هيئة الممرضة أوليفيا ويليامز، تشير إلى أن الفيلم يبدأ ويجري ضمن دار الرعاية، إلا أن هذا الافتراض يمكن أن يُبرهن فقط عندما نعلم تمام العلم، وعبر مشاهد موضوعية، أن هيئة الممرضة التي نراها في نهاية الفيلم تعود بالفعل للممرضة العاملة في دار الرعاية، وليست مجرد اختلاط آخر في ذهن أنتوني الذي يعيد تدوير كل ما يتلاقاه من صورة ومعلومات، جديدة أو قديمة، ويصنع منها في كل مرة كساءً مختلفًا لأيامه التي باتت متشابهة داخل دار الرعاية. وعلى الرغم من الإغراء الذي يجتذبنا باستمرار لفك الأحجية، تبدو القصة، أو الحبكة، هي العنصر الأقل أهمية عبر الفيلم. فليس الهدف الأول من تقنية زيلر الإخراجية هي إدخال المتفرج في متاهات، كالتي يزجنا كريستوفر نولان أو ديفيد لينش فيها، ولا هو يسعى إلى إغراق متفرجه في خيارات فنية وإخراجية متطرفة تضع فيلمه في خانة الأفلام التجريبية أو النخبوية. إن هذا التوازن بين السنن التجريبية والسائدة، بين المقاربة التقويضية والكلاسيكية، هو بالضبط ما يجعل الفيلم مؤثرًا وفريدًا من نوعه، فضلًا عن أداء هوبكينز الهائل، والذي يكاد ينفي وجود منافسين آخرين له على جائزة أوسكار أفضل ممثل لعام 2021، كما فعل قبل أيام؛ إذ حاز جائزة الـ "بافتا" عن دوره في الفيلم.

 إن ترك الباب مفتوحًا للتأويل الذاتي، وإتقان لعبة الإيحاء بالشيء بدلًا من قوله جهارًا، يعيدنا إلى خلفية المخرج المسرحية، فزيلر البالغ من عمره 41 عامًا، يعد اليوم واحدًا من أهم كتّاب جيله في فرنسا. ولعل علاقة التلقي المعقدة التي يقيمها المتفرج مع الفيلم، هي التجلي الأكثر وضوحًا لتقنيات المسرح، فالمشاهد يرى الأحداث عبر عيني أنتوني، ما يخلق تماهيًا وثيقًا بينه وبين الشخصية، لكن علاقة التماهي هذه يتم مقاطعتها بوسائل عدة، منها تغيير ديكور الأماكن وألوان الأغراض بين مشهد وآخر، وهو الأمر الذي يفوّته أنتوني أحيانًا ويتصيده المتلقي مع كل مشهد.

لقد أصبح المتلقي الآن مشككًا في كل الحقائق المقدمة عبر الفيلم، و"المسلمات" التي كان يراها سابقًا، غدت الآن موضع شك وتمحيص له. ومع أن المسرح وتقنياته يمثلان بشكل لا لبس فيه عبر الفيلم، إلا أن المخرج الشاب، الذي تخمرت في ذهنه مسرحية "الأب" لمدة عشر سنوات قبل تصوير الفيلم، يقدم لنا نموذجًا مهمًا على اقتباس المسرح للسينما، مع مراعاة خصوصية هذه الأخيرة من ناحية، ومن دون التخلي عن مكامن القوة التي تميز فن الكتابة المسرحية من ناحية أخرى. ولا يمكن تخطي الحديث عن الإخراج من دون ذكر عمليات التحرير والمونتاج التي قام بها يورغوس لامبرينوس، فتكرار المشاهد مرات عدّة مع إدخال تنويعات بسيطة مع كل تكرار، فضلًا عن اختيار الإيقاع والسرعة المناسبين، والاستخدام الموفق للفضاءات المغلقة وتفعيل علاقتها مع الفضاءات الخارجية، كان لها الدور الأكبر في صياغة الشكل النهائي للفيلم.

من المؤكد أن فيلم فلوريان زيلر ليس عابرًا. ومن المرجح أنه سيحفر طريقه عميقًا نحو كلاسيكيات السينما العالمية، ليغدو لحظة فارقة في حياة مخرج شاب يخطو اليوم خطوته الأولى، وممثل ناهز الثالثة والثمانين من عمره، مقدمًا خلالها أداءات كثيرة مبهرة للسينما والتلفزيون.

المساهمون