فيلمان لبنانيان "واقعيّان": يوميات أفرادٍ في عالمٍ سفليّ

فيلمان لبنانيان "واقعيّان": يوميات أفرادٍ في عالمٍ سفليّ

12 ابريل 2023
فؤاد يمين: حِرفية أداء في "هَرْدَبشت" لمحمد دايخ (علي لمع/الملف الصحافي)
+ الخط -

 

يُذكِّر "هَرْدَبشت" (2022)، لمحمد دايخ، بـ"فيلم كتير كبير" (2015)، لمير ـ جان بو شعيا. التشابه بينهما، في نواحٍ عدّة، دافعٌ إلى سؤال عن علاقة السينما اللبنانية بالبيئات الاجتماعية والثقافية والتربوية والاقتصادية، تحديداً، التي يتشكّل منها البلد، إنْ يكن في صراعات بعضها مع بعض آخر، أو في داخلها، أي في فضاءاتها ومسالكها وتقاليدها وآليات عيشها، أو في ارتباطها/عدم ارتباطها بـ"الدولة"، المنهارة كلّياً، أقلّه منذ منتصف عام 2019.

سؤال منبثقٌ من إمكانية قراءة الفيلمين، وغيرهما القليل، استناداً إلى الاجتماعيّ البحت، رغم أنّهما غير معنيين به كلّياً، لانصرافهما إلى حكاية وأفرادٍ وسلوك وعلاقات، يتّسم بها هؤلاء، كما يتّسم بها الحيّز الاجتماعي/الجغرافي المُقيمين فيه، من دون إسرافٍ في تفكيك الحيّز/البيئة، بل بالغوص، سينمائياً، في أحوالٍ وانفعالات ومواجهات فردية لتحدّيات حياتية قاسية ومؤذية.

ففي مقابل تركيز "فيلم كتير كبير" على حيّز/بيئة مسيحية، يعاين "هَرْدَبشت" بعض الحاصل في بيئة شيعية، في الضاحية الجنوبية لبيروت، المُقابلة للضاحية الشرقية للمدينة نفسها، التي يعاينها مير ـ جان بو شعيا.

هذا غير ناقدٍ الاشتغالات السينمائية في الفيلمين، فالسؤال يتجاوز السينمائيّ إلى محاولةِ مقاربة الاجتماعي عبر أفلامٍ، تكشف شيئاً من وقائع عيش، متأتٍ (العيش) من ركائز ثقافية واجتماعية ودينية/طائفية، في بلدٍ مولود، أصلاً، من توافقات هشّة بين طوائف/مذاهب، تغلب الدستور، الذي يُفترض به أنْ يكون جوهر الكيان في جوانبه المختلفة. ولأنّ النظام الحاكم، أي الطوائف/المذاهب، "أقوى" من الدولة/الوطن/البلد، يُصبح مشروعاً تناول هذه البيئات سينمائياً، بوضوح وصراحة. "معارك حبّ" (2004)، لدانييل عربيد، مثلاً، يكشف "بداية" الانخراط الواضح والصريح لأفلامٍ لبنانية في أحوال الحيّز/البيئة، لانشغاله (معارك حب) بتجربة شخصية لعربيد في حيّزها/بيئتها المسيحية، في إحدى فترات الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990).

التشابه بين "هَرْدَبشت" و"فيلم كتير كبير" مرتكز على نواحٍ عدّة: فإلى جانب تمثيل ألكسندرا قهوجي وفؤاد يمين فيهما، هناك الرابط الأخوي لمخرجيهما. فمع دايخ، يُمثّل شقيقاه، حسين (أبو الفضل/عباس) ومهدي (ذو الفقار/زوزو). ومع بو شعيا، يتولّى شقيقاه، لوسيان وكريستيان، معه، الإنتاج. الشخصيات الأساسية في الفيلمين موزّعة على 3 أشقاء: حسين (حسين قاووق) وأبو الفضل وحمّودي/محمد (محمد عبدو) في "هَردَبشت"؛ والإخوة حدّاد، زياد (آلان سعادة) وجو (طارق يعقوب) وجاد (وسام فارس)، في "فيلم كتير كبير". المخدّرات جامعةٌ بينهما أيضاً، فالأشقاء الـ3 في كلّ فيلمٍ يتاجرون بها، أساساً، ويتعاطونها أحياناً، (هَرْدَبشت). الحيزان/البيئتان فقيران، يتفشّى فيهما العنف، الذي يزداد بسبب تجارة المخدّرات، وهذا معروفٌ.

 

 

مشترك آخر يتمثّل بسيمون الهبر، الذي يُساعد مير ـ جان بوشعيا في توليف فيلمه، ويكون مستشاراً للمونتاج، مع نبيل محشي، في "هَرْدَبشت" (توليف محمد دايخ نفسه). حِرفيّة الهبر في التوليف عاملٌ أساسيّ لحضوره في الفيلمين، وهذا يُحسَب لبوشعيا ودايخ. تماماً كما يُحسَب لهما تعاونهما مع الممثلين ألكسندرا قهوجي وفؤاد يمين، لتمتّعهما بحِرفيّة أداء، تتلاءم والشخصيتين اللتين يؤدّيها كلّ واحد منهما: الزوجة التي تعاني قهراً في منزلها وبيئتها، فـ"تنفتح" على رجال الحيّ وشبابه (هَرْدَبشت)، رغم أنّها، في ارتباطها الجنسي/الجسدي بحسين، تكشف عن رغبةٍ في خلاصٍ معه وبه، قبل أنْ يُعلن انفضاضه عنها (إثر حادثةٍ يُفضَّل عدم الإعلان عنها، هنا الآن). بينما تؤدّي، في "فيلم كتير كبير"، دور الزوجة في فيلمٍ يُصوّره شربل (يمين)، للاحتيال على الجمارك اللبنانية في تهريب المخدّرات عبر مطار بيروت. المخرج شربل، الخاضع لسطوة زياد وجو تحديداً، يجهد للخروج من مأزقه، بفيلمٍ يُريد إنجازه وفقاً لرغباته، من دون أنْ يتمكّن من فعل هذا. أمّا في "هَرْدَبشت"، فيكون طانيوس، صاحب محلّ لتصليح الدراجات النارية، المسيحي أيضاً، الذي يخدع الجميع، موهماً إياهم بتصليح أعطالٍ غير مُصلّح إياها كما يجب.

القول بتشابهٍ بين الفيلمين، في نواحٍ عدّة، غير لاغٍ اختلاف أحدهما عن الآخر، سينمائياً واجتماعياً. فـ"هَرْدَبشت" ليس "نسخةً شيعية" عن "فيلم كتير كبير" "المسيحي"، رغم المشتركات كلّها، لاعتماده مفرداتٍ وآلية اشتغال غير متشابهة معه، تصويراً (فادي قاسم لـ"فيلم كتير كبير" وفاطمة رشا شحادة لـ"هَرْدَبشت") ومعاينةً درامية وتوليفاً. العمل في تجارة المخدّرات دافع إلى انزلاقٍ تدريجي في العالم السفلي، المليء عنفاً ومطارداتٍ، غير بعيدة عن "قوى أمر واقع" في كلّ حيّز/بيئة، وإنْ يتجنّب الفيلمان الإشارة إليها مباشرة، رغم أنّ الانغماس في الحيّز/البيئة الشيعي غير قابلٍ للتحرّر من الإشارة إلى الحضور الطاغي لـ"حزب الله" أولاً، ولـ"حركة أمل" تالياً.

بوشعيا يختار السينما (فيلم داخل فيلم)، متعاوناً مع السينمائي اللبناني الراحل جورج نصر (1927 ـ 2019)، الذي يُخبر الإخوة حداد (زياد وجو أساساً، وجاد معهما) وشربل حكايةً حقيقية (الجمارك اللبنانية غير متمكّنةٍ من الكشف على صناديق الأشرطة المُصوّرة السلبية عبر الآلات المستخدمة في خمسينيات القرن الـ20، لعدم إتلافها)، تُصبح دافعاً لإنجاز فيلم عن مسيحي يتزوّج مسلمة (هذا موضوع حسّاس، أيضاً، في البنية اللبنانية).

السابق ملاحظات تستدعيها مشاهدة "هَرْدَبشت" (تبدأ عروضه التجارية اللبنانية في 13 أبريل/نيسان 2023، في يوم الذكرى الـ48 لاندلاع الحرب الأهلية اللبنانية). أفلام لبنانية قليلة، منجزة في أعوام ماضية، تعاين حيزاً/بيئة بوضوح وصراحة، خاصة تلك الوثائقيات المنبثقة من الذاتيّ إلى الأبعد من الشخصي البحت.

المساهمون