فلورانس ميياي (1/ 2): اخترتُ الصّباغة الزيتية لأنّها نوعٌ من التحدّي

فلورانس ميياي (1/ 2): اخترتُ الصّباغة الزيتية لأنّها نوعٌ من التحدّي

30 يناير 2023
فلورانس ميياي: الصّباغة تنهل من التشكيل والمادة (إيساياس بيتال/Getty)
+ الخط -

 

بإنجازها أول فيلم طويل لها بعنوان "العبور"، تبرز فلورانس ميياي (1956) اليوم كأحد أبرز المتخصّصين في تحريك الصباغة الزيتية. بعد تكوينها في النقش والتشكيل، وتجربتها كرسّامة للصحافة، خاضت مغامرة تحريك الصباغة على الزجاج مباشرة تحت الكاميرا (تغطية رسم حركة بآخر بعد أخذ صورة)، في أفلامٍ قصيرة، طليعية ومجدّدة، أولها "حمّام" (1991)، الذي أفصح عن تفرّدها في التقاط حركات الجسد وانسيابها.

عام 2002، فاز "في أول أحد من آب" بـ"سيزار" أفضل فيلم قصير، قبل نيلها تنويهاً من مهرجان "كانّ" عام 2006، عن "حكاية من الحيّ". نيلها "كريستال شرفي" من مهرجان "آنسي"، عام 2015، مؤشّر على خصوصية سينما التحريك، إذْ يمكن أنْ يمضي مؤلّفٌ سحابةَ مساره مُنزوياً في محترفه لصنع أفلامٍ قصيرة بمنطق تقليدي، من دون أنْ يجد أحدٌ في ذلك أيّ داعٍ للاستغراب أو التنقيص.

لعلّ هذا ما شكّل تحدّياً لميياي، عند انبثاق فكرة تحقيق فيلم طويل: التنازل عن حميمية الاشتغال في فريق صغير، لضرورة إدارة فريق كبير من العاملين على الرسم والتحريك، مع رهان موازنة أكبر، وشراكات إنتاج. تحدٍّ، نجحت فيه، لتحكي قصّة مؤثّرة، تتجرّد من مُحدّدات الزمان والمكان، لطفلين (كيونا وأخوها الأصغر أدريال) يفرّان من قريتهما، حيث يسود التنكيل والأحقاد العنصرية، ويفقدان والديهما، ويعبران بمفردهما أوروبا متخيّلة، في رحلة تعلّمية، يجتازان فيها محطّات مع فرقة السيرك المرتحل، في الغابة السحرية و"غيلانها" المفترسة، ثمّ في معسكر الاعتقال وعصاباته. رحلةٌ وضعت فيها ميياي عناصر مستمدّة من قصّة رحيل والدتها مع أخيها الأصغر، للالتحاق بالمنطقة الحرّة في فرنسا، عام 1940.

رسومات كيونا في "العبور" هي الرسومات نفسها لوالدتها، وصوت الرّاوية (كيونا عجوزةً) صوتها، بينما تولّت هانّا شيغولا تسجيل صوت الرّاوية للنسخة الألمانية. أسلوب الفيلم ـ المُتدرّج بين تعبيرية الألوان الزاهية، ذات الجمال الفائق، والتجريدية الصرفة، التي تعتري الانتقالات ـ منحه ديناميكية مناخات لا تخطئ طريقها إلى القلوب، رغم قتامة الطرح، ما يجعل مشاهدته تجربةً حسّية، قلّما تجود بها سينما التحريك.

بمناسبة عرض "العبور" في المسابقة الرسمية للدورة الـ20 (6 ـ 11 مايو/أيار 2022) لـ"المهرجان الدولي لفيلم التحريك (فيكام)" بمكناس المغربية، أجرت "العربي الجديد" حواراً مع فلورانس ميياي، تحدّثت فيه عن صعوبة إنجاز فيلم طويل، وخصوصية الحكي في "العبور"، وتقاطعاته مع قصّة عائلتها، واختياراتها الفنية في الرسم والتحريك، ومشاركة هانا شيغولا بصوتها في النسخة الألمانية، وتلقّي الفيلم، وظروف إطلاق عروضه في صالات السينما.

 

(*) استغرق صنع "العبور" وقتاً طويلاً. أتاح لك هذا، بالطبع، العمل بعمق، وصقل التفاصيل. لكنّي أتخيّل أنّ الأمر لم يكن سهلاً، وربما مُحبطاً من ناحية أخرى.

نعم، صحيح. انتهيتُ من السيناريو عام 2010. لكن سيرورة البحث عن التمويل كانت طويلة. لم نحصل على التمويل كما كنّا نأمل، واستغرق العثور عليه أكثر من 10 أعوام، لم أعمل فيها على الفيلم طوال الوقت. اشتغلتُ على أشياء أخرى بالتوازي. كنتُ أعود إلى السيناريو بانتظام، مع الكاتبة ماري ديبلشان، لتحسينه. كنتُ أختبر بعض الأشياء بصرياً، أيضاً. لم يكن العمل عليه بدوام كامل. لكنْ، في كلّ سنة، تقول لي المنتجة: "حسناً. سنحاول كذا وكذا في محاولة العثور على المال، لذلك سيكون جيّداً أنْ تعودي إلى ملف الفيلم قليلاً". كلّما استجبتُ لطلبها، وأعدنا قراءة النص مع ماري، كنّا نقول لأنفسنا: "آه نعم. هناك بالفعل إمكانية لتحسين الأشياء". لذلك، شيئاً فشيئاً، وجدنا المسافة المناسبة لتحسين السيناريو.

أعتقدُ أنّ تأخّر التمويل انعكس إيجابياً على جودة الفيلم، لأننا ركّزناه أكثر فأكثر على الأساسيات. في الوقت نفسه، صعبٌ أنْ يكون لديك مشروع لا يمكنك إنجازه. هناك لحظة تقول فيها لنفسك: "لا يمكن أنْ تستمرّ الأمور على هذا النحو، عليّ المضي قُدماً". لحسن الحظ، في هذه الأثناء، اقتبستُ "تحوّلات" أوفيد (مسلسل من 6 حلقات، عبر تحريك الرمال، لحساب "فرانس 2" ـ المحرّر). لكنّ هذا لا يمنعك من الاستقرار في نوع من الشعور بين منزلتين، حيث لا يُمكنك الانتقال تماماً إلى شيء آخر، وفي الوقت نفسه لا يُمكنك التخلّي عن مشروعك، لأنّك تحمله في داخلك.

 

(*) في ما يتعلق بتقنية التحريك، اخترتِ الصّباغة الزيتية، التقنية المفضّلة لديك منذ أفلامك القصيرة. هل فكّرت في تحريك الفيلم بشكل مختلف عن هذه التقنية، في هذه المدة؟

لا، أبداً. بالنسبة إليّ، كان واضحاً أنّي أردتُ إنجازه بالصّباغة الزيتية. السبب الأول أنّه نوعٌ من التحدّي، أنْ أقول: حسناً، صنعتُ أفلامي القصيرة بهذه التقنية، ويُمكن صنع فيلمٍ طويل بها أيضاً. أعتقدُ أنّه صعبٌ جداً القيام بذلك. لكنّي أردتُ إثبات أنّه ممكنٌ. في الوقت نفسه، وجدتُ أنّ الصّباغة الزيتية تتوافق جيداً مع الموضوع، لأنّي أردتُ التعامل مع الهجرة بطريقة مجازية للغاية، فكانت الصّباغة مناسبة جداً للاستعارة. مع الصّباغة الزيتية، لا يتعيّن عليك تحديد التفاصيل. في رسم "عائلتي الأفغانية" (فيلم تحريك لميكاييلا بافلاتوفا، أُنجز بتقنية ثنائية الأبعاد عبر الحاسوب ـ المحرّر)، توجّب عليهم أنْ يكونوا دقيقين. ينبغي على المدن التي عرضوها أنْ تبدو كالمدن الأفغانية، وإذا كانت هناك سيارات، يجب أنْ تبدو كالسيارات التي يستقلّها الجنود الأميركيون. والبنادق أيضاً، إلخ.

هناك عمل توثيق يجب القيام به، لم أكن أرغب فيه. أردتُ أنْ يكون الفيلم كحكايةٍ شعبية، وعندما يظهر مسدّس يكون عبارة عن خط من الطلاء الأسود. لا نحتاج إلى معرفة ما إذا كانت البندقية كلاشينكوف يبيعها الروس، أو غيرهم (تضحك)، أو ما نوع السيارة التي نراها. أحبّ في هذه التقنية أيضاً أنّها لا تُرغمك على أنْ تكون واقعياً.

 

سينما ودراما
التحديثات الحية

 

(*) تسمح الصّباغة الزيتية أيضاً بدرجة معينة من التجريد، أحببتُها في الفيلم، خاصة في لحظات الانتقال بين المَشاهد، حيث يتفاقم طابع التجريدية.

نعم، بالتأكيد. في الواقع، هناك أوقات تسمح لك فيها الصّباغة بالحصول على خطّ يتحرّر تماماً، وينحرف لينهل من تاريخ التشكيل والمادة، ويُصبح بالتالي أكثر حسّية. لا أحبّ حصرياً هذا النمط من التحريك، لكنها التقنية التي أحبّ نهجها في ما أصنع.

 

(*) أيضاً، هناك أحياناً ـ أخمّن في مشهد ذوبان الجليد تحت وقع الأقدام، وانسياب قطرات الماء ـ انطباع يتكوّن لدينا بأنّ ما نراه واقعي للغاية. كيف يُمكنك تحقيق هذا التأثير؟ هل تستلهمين من أشياء حقيقية، أم أنّ كلّ شيء متأتٍ من خيالك؟

في كلّ أفلامي، هناك مزيجٌ أحبّه من الأشياء التي ألاحظها في الواقع، وأشياء أخرى تجلب بُعداً أكثر شبهاً بالحلم. في "العبور"، ألهمتني الصُوَر كثيراً. زوجي مُصوّر لدى "ماغنوم"، وهذا وفّر لي إمكانية البحث في أرشيف الوكالة. صُوَرٌ لكلّ العظماء الذين وثّقوا، منذ الثلاثينيات، اللاجئين في الحرب الأهلية الإسبانية، ووصول اليهود إلى فلسطين، وعمليات نزوح عدّة من هذا القبيل. عند تأمّل كلّ ذلك، نُدرك أنّنا نكون دائماً أمام الصُوَر نفسها في العمق، وفي الوقت نفسه، هناك اختلافات بينها.

لم أستلهم الكثير من الواقع، لأنّه لم يكن لدي الوقت. لكنّي وجدت وحياً في واقعٍ فوتوغرافي مُعيّن. عندما صنعتُ "حمّام"، أول أفلامي، أنجزتُ رسومات مُلهمة عدّة في مسجد باريس، وحمّامات، وأماكن حقيقية أخرى. كان هناك جانب يُحيل، تقريباً، إلى الريبورتاج المرسوم بتفاصيله المحدّدة، وفي الآن نفسه، بُعدٌ حالمٌ يأخذنا إلى الخيال.

 

(*) بخصوص السرد، اتّخذتِ خياراً حكيماً وذكياً بعدم ربط تاريخ الفيلم بمنطقة معينة، أو حقبة محدّدة، ما منحه حرية تاريخية وجغرافية كاملة. بفضل ذلك، أعتقدُ أنّه سيصمد طويلاً في تاريخ السينما.

هذا الخيار اتّخذته مع ماري ديبلِشان. في البداية، أردتُ صُنع فيلمٍ تاريخي إلى حدّ ما. لكنْ، لأنّه فيلم تحريك بالصّباغة الزيتية، مؤكّدٌ أنّه كان سينفلت إلى واقع تصويري بشكلٍ ما. اختيار صُنع قصّة تندرج في زمن أسطوري كان مهمّاً. صحيحٌ أنّ الاغتراب في المنفى موجودٌ دائماً، لكنّ المرجعية في الفيلم تنتمي، خاصة، إلى بداية القرن الـ20 وبداية القرن الـ21. هناك نوعٌ من جسرٍ بين هاتين الفترتين، اللّتين عرفتا حركة كبيرة للهجرة. بدأت حكايات المنفى بمغادرة موسى لمصر. ومنذ فجر التاريخ، كان الناس يفكّرون قائلين: "هنا، لا تسير الأمور على ما يرام. هل نحاول في مكان آخر؟ ربما يكون المنظر، على الجانب الآخر من التلّ، أكثر خُضرة وأوفر مياهاً"، فيهاجرون. وجدتُ ذلك مهماً، أنْ أحكي عن هذا الموضوع، في وقتٍ شاهدٍ على أنّ احتمال تفاقم حركات الهجرة قائمٌ. للأسف، لم تُكذّب التطوّرات هذا التوقّع، فاستغرق إنتاج الفيلم 15 عاماً، زادت فيها الأمور سوءاً.

واضحٌ أنّنا لم نتوقّع اندلاع الحرب في أوكرانيا. لكنْ، في الأثناء، كانت هناك حربٌ في سورية، ثم لاجئو التغيّرات المناخية. مُهمّ التساؤل: "ما الذي سنفعله بهذا الكوكب، وكلّ هؤلاء الناس الذين لن يتمكّنوا من البقاء في بلدانهم الأصلية؟". لا يُقدّم الفيلم حلاً، لكنّه يثير قليلاً من مآسي عصرنا.

 

(*) في هيكل السيناريو، شعرتُ أنّ هناك مناوبة بين الأوقات الصعبة، أو أوقات التوتّر، وأوقات احتفالية أو تأمّلية أكثر، يلتقط الفيلم فيها أنفاسه. هل كان هذا الهيكل موجوداً منذ البداية؟

نعم، كان هناك. بعد ذلك، كنّا كلاسيكيين كثيراً في نسج القصّة، لأننا بصدد طفلين صغيرين، سيُصبحان بالِغَين سريعاً، كما يحصل عادة مع القاصرين غير المصحوبين بذويهم، أو الأطفال في حالة حرب. أردتُ فعلاً أنْ يمرّا بمصاعب. كان هناك جانب تعلّمي، يقتضي ـ بصرف النظر عن عبورهما القارة الأوروبية ـ أخذهما في رحلة من الطفولة إلى المراهقة، ثم البلوغ تقريباً في النهاية. في الفيلم، كنتُ محتاجة إلى لحظات هدوء تتخلّل كلّ هذا.

المساهمون