راهن سينمائي عربي (1/ 2): سجالٌ عن حاجةٍ وواقع

راهن سينمائي عربي (1/ 2): سجالٌ عن حاجةٍ وواقع

27 ديسمبر 2023
غسان سلهب: أحد أبرز السينمائيين التجديدين العرب (إيريك كاتارينا/Gamma-Rapho Getty)
+ الخط -

 

ظلّت السينما، أعواماً طويلة، كنزا حضاريا وثقافيا لا ينضب. إنّها الشاشة الكبيرة التي لا تنفصل عن الواقع وأحداثه، وعن الذاكرة في شموليتها وفردانيتها، إذْ تعتبر من أكثر القطاعات تأثيراً في المجتمع الحديث، والحياة المعاصرة.

أثبتت السينما مدى ارتباطها بالذات والوجود الحيّ، في مختلف تمظهراتهما وتغيّراتهما، وعلاقتها بالمشترك الإنساني فينا. أفلامٌ كثيرة خلّدتها مكتبة السينما العربية، باختلاف مواضيعها وقدرتها على تقديم صور للواقع، لا تخلو من نفحات الحلم، كـ"لا تطفئ الشمس" (1961) للمصري صلاح أبو سيف"، و"إسكندرية ليه؟" (1979) للمصري يوسف شاهين، و"صمت القصور" (1994) للتونسية مفيدة التلاتلي، و"رشيدة" (2002) للجزائرية يامينا بشير ـ شويخ، و"باب الشمس" (2004) للمصري يسري نصرالله، وأفلام أخرى تناولت ما يعيشه المجتمع من مواضيع منفتحة على آماله وأمانيه وأحلامه المكتنزة تفاصيل، فكانت السينما ملجأها، تلك التي ترى صوره المتعدّدة، واقعاً وخيالاً.

ملجأ شهد، في الآونة الأخيرة، طفرة في عدد المهرجانات السينمائية في دول عربية، وهذا دافعٌ إلى البحث عن مرجعيات النقد السينمائي العربي، ومكانة الناقد في هذا العصر الرقمي، إضافة إلى أسئلة أخرى عن المكانة التي تحتلها السينما العربية اليوم.

في ملف عن السينما العربية، والتغيرات التي رافقتها اليوم، وكيفية اختبارها أسئلتها ومكانتها وملامحها، طُرحت أسئلة مختلفة على عاملين وعاملات عرب في صناعة السينما (الأجوبة منشورة بحسب الترتيب الأبجدي للاسم الأول لأصحابها):

(1) لماذا يحتاج الإنسان الحديث إلى السينما؟

(2) اليوم، هناك طفرة في المهرجانات السينمائية في الدول العربية. إلى أي مدى دعمت هذه الطفرة المهمة الأساسية التي نشأت من أجلها المهرجانات؟

(3) هل حقّقت السينما العربية هوية إبداعية تؤهّلها لامتياز المنافسة العالمية؟

(4) هل نفتقد اليوم ما يُسمّى بالمرجعيات النقدية في المجال السينمائي العربي؟

(5) أيمكن القول إنّ الناقد السينمائي فَقَد سلطته في ظلّ العصر الرقمي؟

(6) بين المتعة والمعنى، كيف تختبر السينما العربية أسئلتها؟

 

محمد أحمد جميل

(ناقد سينمائي سوداني)

1- الإنسان الحديث يحتاج إلى السينما لأنّ قدرته على الخيال أكبر بكثير من الواقع، ولأنّ من أجمل النقاط التي تكون فيها الحياة ملهمة نقطة الالتقاء بين الواقع والمثال ـ الخيال، عبر ذلك الجموح لتجسيد الإرادة عبر الخيال السينمائي. أحوال الحياة في الأزمنة الحديثة تعجّ بتفاصيل لا يُمكن أن يستوعبها إلاّ خيال السينما: أحلام الإنسان الناقصة، أمنياته، آماله، رغبته في الخلود، إدراكه أنّ إرادته العابرة بالخيال أكبر بكثير من قدراته المحدودة بقوانين الواقع وسجن الطبيعة. لذلك، كانت السينما، بخيالها الواسع المتعدّد، الوجهة والمكان. إنّها "جنّة العصور الحديثة"، فالإنسان الحديث، الذي كَفّ عن الاعتقاد في أساطير وملاحم العصور القديمة، وجد في خيال السينما معادلة منحته القدرة على إعادة توازن مفقود.

 

آداب وفنون
التحديثات الحية

 

2- تقام المهرجانات من أجل السينما، لا العكس. في كلّ مهرجان، تحفيزٌ ما على الإبداع، وكثرة المهرجانات ربما تكون علامة على الغنى في حكايات السينما. لكنّ ذلك مشروطٌ بمحتوى الإبداع السينمائي العربي، الذي تحتضنه تلك المهرجانات. فعوضاً عن إغراء التقليد، الذي درجت عليه حياة العرب، لا يُمكن أنْ تكون المهرجانات "مُحَدَّداً" حصرياً لطبيعة الإبداع السينمائي، لأنّ السباق الاحتفالي محدود بالاختيار، الذي لا يُمكن أنْ يكون معياراً مطلقاً لتقييم الأعمال السينمائية.

من الخطأ الظنّ أنّ المهرجانات تخلق الإبداع. الرهان الحقيقي يجب أنْ يكون على قدرةِ إنتاجٍ سينمائي، تحكمه معايير الإبداع. يُمكننا، عبر هذا الرهان، تحديد طبيعة المهرجانات السينمائية العربية اليوم.

3- عموماً، لا يُمكننا القول إنّ هناك امتيازاً ظاهراً عالمياً للسينما العربية، التي حين نقيسها اليوم بسينما إقليمية مجاورة، كالسينما الإيرانية، نمنح الأخيرة درجةً على الأولى. مع ذلك، هناك اختراقات خجولة تحقّقت للسينما العربية في مهرجانات، مثل "كانّ" وبرلين وفينيسيا، وفي جوائز دولية، كـ"أوسكار". لكنّ معيار النسبة والتناسب العددي بين العرب والإيرانيين، حتّى الآن، لا يمنح السينما العربية استحقاقاً مضافاً وفق ذلك المعيار.

بطبيعة الحال، هناك تطوّر ملحوظ في السينما العربية، خاصة في بعض البلدان العربية، لا سيما في السعودية مؤخّراً. هذا التطوّر سيمنح السينما العربية، يوماً ما، بصمتها العالمية.

4- النقد السينمائي إبداع موازٍ للإبداع السينمائي. اليوم، لا يمكننا أنْ نؤشّر إلى طبقة واحدة من النقّاد السينمائيين العرب، بالإضافة إلى وجود مرجعيات نقدية سينمائية عربية. هناك نقّاد سينمائيون عرب، لكنّهم يُعدّون على أصابع اليد، كما قال إبراهيم العريس ذات حسرة. بدأت السينما العربية تاريخها من نقطة تقليد متقن لبعض الحكايات السينمائية الأوروبية والأميركية. لكنْ، هناك ظروف، تتّصل بالتطوّرين التاريخي والسياسي للعرب، انعكست في خطٍّ بياني لا يؤشّر رصده إلى اطراد في مراكمة التجريب السينمائي العربي، لا سيما منذ منتصف ثمانينيات القرن العشرين، وانعكس ذلك، بطبيعة الحال، على النقد السينمائي.

5- هناك زعمٌ كهذا في بعض أوساط السينمائيين العرب. لكنْ، بما أنّ النقد السينمائي إبداع موازٍ للإبداع السينمائي نفسه، فإنّ النقد هنا سيكون من جنس هوية الإبداع السينمائي. لذا، لا أظنّ أنّ الناقد السينمائي فَقَد سلطته كناقد. صحيحٌ أنّ الثورة الرقمية قدّمت خدمات تقنية هائلة في الإبداع السينمائي، لكنّ قدرة النقد والناقد السينمائي، لكونه فناناً ومُبدعاً، لا تحدّها حدود في قراءة الإبداع السينمائي، نقدياً وإنسانياً، من زوايا متعدّدة الوجهة والمكان. النقد معرفة إنسانية بالسينما، ترصد تعبيراتها بالتجليات المختلفة نفسها التي تضخّ الحكايات الإنسانية لسينما العالم الحديث، مهما تطوّرت التقنيات الرقمية.

6- على السينما العربية أنْ تختبر أسئلتها في ألوان الحياة، التي يضطرب فيها واقع عربي، بكلّ تناقضاته وحكاياته وعنفه وإحباطه ولحظاته المشرقة والمظلمة. وبما أنّ كلّ مجتمع يحمل شفرة خاصة به، وهوية ذاتية لحكاياته، فالقدرة على اختبار واكتشاف أسرار إنتاج المعنى الفني في حكايات السينما العربية رهانُ الاستحقاق الوحيد لمبرّر وجود الفن السينمائي. فضلاً عن كون معادلة المتعة والفائدة في الفنّ السينمائي تتطلّب موهبةً وإبداعاً، لهما مصداقية لدى المتلقّي العربي. عندما يتحقّق ذلك، فإنّ علامته البارزة ستتجسّد في القدرة على توليد حكايات سينمائية عربية لا متناهية، لأنّ القدرة على الإبداع شرط تجدّده وتوالده.

 

مزنة المسافر

(مخرجة عُمانية)

1- يحتاج البشر دائماً إلى فهم الحياة وإدراكها، ونقل تجاربهم الفردية إلى الآخرين، في نطاق جغرافي قريب، أو بعيد، وفَهم فضاءات التفكير المختلفة عنهم، لإدراك ما ينقصهم، والتركيز على تحسين النفس، ومنح الفكر الإنساني الذي نشترك فيه جميعاً أفقاً جديداً، وطريقاً سالكة.

2- نشأت المهرجانات لخلق صناعة واستثمار في الفن، ومنح المبدعين فصلاً من الألق، لأنّ المهرجانات تحظى بتركيز إعلامي وصحافي، وتُكتب مقالات عن المطروح في الساحة. ضروريّ الاستثمار في الفنّ، ومنح السينما سبيلاً جديداً لبلوغ الجمهور والوجدان الإنساني، ولجمع أفكار عدّة، ونطاقات تعبيرية، وأنواع ومدارس فنية متنوّعة في مكان واحد، وزمن محدّد.

لكنّ المهرجانات تحتاج إلى دعم، مادي ومعنوي. حين لا تجد مستثمرين كفاية، يخفت وهجها، وتقلّ فعالياتها، لأنّ الدعم ضروري للغاية، لاستمراريتها. هناك تجارب كثيرة من المشرق والشرق الأوسط، أعمالها ناطقة بالعربية الفصحى، أو باللهجات المحلية المحكية، أو بلغة ذات انتشار إثني محدّد، أو لغة ينطقها أبناء أقلية معينة.

3- تحظى السينما العربية بحضور كبير، لأنّها ذات قصص معنية بحقيقة مغتربة عن بقية الشعوب، وتتواجد بامتياز في ثنايا الفيلم العربي حكايا الإنسان والأرض والمعاناة والبساطة والواقعية المغلّفة بالسحر. إنّها لافتة للانتباه، وقادرة على نيل جوائز، وأحياناً تسلب الأفئدة والقلوب وتأسرها بفضل مَشَاهد، مبدأها الأساسي الجمال.

4-) يصعب أنْ أفكّر بما يُفكّر به الناقد، لأنّي مخرجة وكاتبة نصوص. شعوري ينحصر دائماً بالخلق، ونسج قصة، ووضعها على الورق بشكل متناغم. شعوري لا يرتكز على البحث عن الناقد، بل ترك العمل يجلب النقّاد، ومحبّي النوع الذي أركّز عليه في صوغ أفلامي، السينمائية والتلفزيونية. فالصورة، بالنسبة إليّ، تكوين متكامل يحتاج إلى الدقّة والحرفة، والإحساس العميق الذي يجعل الصورة ذات مغزى لمن يشاهدون العمل.

5- الناقد لم يفقد سلطته، لأنّه لا يزال هناك صحافة، وهناك مقالات وكتب وأوراق تطرح في فعاليات معنيّة بالسينما، أو في مهرجانات محلية وعالمية. كذلك، لا ننسى أهمية الناقد في رصد الأعمال وتوثيقها كتابياً، ووضعها في كتاب أو بحث، ونشر هذا كلّه، وكيفية رصده تفاصيل وأفكار، وتحليله المَشاهد بمنطق مختلف عن المخرج وكاتب النصّ. وهذا برؤية أخرى، وبمنظور فني مختلف، فيه إدراك عميق للنص والمَشاهد والفكرة العامة للفيلم، لأنّ الناقد أكثر اعتيادية في تحليل الأفلام السينمائية من المخرج، المنشغل بتحقيق عمله، فنياً وإنتاجياً.

6- المعنى قبل المتعة. السينما التجارية تركّز على المتعة، من دون ترك أسئلة أو فلسفة معنيّة بالفيلم. بينما السينما المستقلّة، والسينما المعنيّة بالإنسان، تتركان أفكاراً وأسئلة.

 

 

محمد مومن

(ناقد سينمائي تونسي)

1- كأناس هذه الأزمنة الحديثة، نحتاج إلى السينما لألف سبب، أوّلها إضافة "زائد روحي" إلى حياتنا. لولا السينما، لما استحقّت الحياة المعاصرة، حياتنا اليوم، أنْ نحياها. لولاها، لكانت بلا روح ولا معنى. إنّها فتحات حلم في واقعنا الحديدي والناري، إضاءات في عتمة أيامنا التي باتت، ساعة بعد ساعة، أعنف وأكثر فردانية وأنانية. السينما فنّ الصورة الأول، والصورة من لغة العصر هذا وبلاغته، تُشعِرنا فنّاً بالمشترك الذي يجمعنا في قضايا العصر.

2- هذه المهرجانات، بحدّ ذاتها، ظواهر حسنة، ككل ما يتّصل بتوسيع قواعد الجماهير المتفرّجة والمتابعة للشأن السينمائي. لكنّها تتشابه، ويندر أنْ تسعى إلى التخصّص، فتبقى عامّة جداً، وتُعيد نفسها. أساليب تنظيمها وتنشيطها تكاد تكون نفسها، وهذا يُضعف جدواها، ويقلّل فائدتها ومردودها. لا بُدّ من إعادة النظر في مفاهيمنا لهذه المهرجانات. إنّها الآن، على كلّ حال، لم تعد تثير اهتمام عامة الناس، ولا المهتمّين، إلاّ لماماً.

3-) هل ارتقت السينما العربية (إنّها سينمات) إلى مصاف إبداعات السينما العالمية؟ لا أحد بإمكانه ادّعاءً كهذا، إلاّ من باب التعصّب الشعبوي والإيديولوجي، لأنّ للحقيقة المجردة وجوهاً أخرى في تنافٍ مطبق مع ادّعاءات كهذه. بقي ما نراه من السينما العربية محلياً، فلا أشكالها ولا محتوياتها استطاعت التعبير عن المشاغل الكبرى للإنسانية، ولا للمسائل المصيرية التي يعيشها عالمنا الآن. ثم إنّها لم تعرف كيف تتطوّر صناعياً، لا على مستوى تقنياتها، ولا على مستوى أساليب خطاباتها، فظلّت صالحة للاستهلاك المحلي فقط.

4-) عن افتقاد المرجعيات النقدية، يُعتبر النقد ثمرة من ثمرات الفكر النقدي، لكنّه في عالمنا العربي حسير. لذا، لا أفهم كيف نستغرب غياب النقد في المجالات الفنية؟ في هذا السياق، لا تُمثّل السينما استثناءً: إنّها، ربما، أوّل الفنون التي تفتقر إلى علم أو فنّ النقد.

5-) لماذا هذا السؤال؟ هل كان لمن يمتهن النقد المسرحي في السابق، قبل العهد الرقمي، سلطة؟ هل كان له حضور فعلي، بالمفهوم الاحترافي للكلمة؟ طبعاً لا. كان النقد السينمائي، والنقد الفني عامة، نشاطاً هاوياً ومُهمّشاً، ويكاد يكون غير موجود. وجود السينما بحدّ ذاته محلّ جدل، ومثار نقاش.

بالنسبة إلى هذا السؤال، أجيب في صيغة سؤال آخر: هل وُجد حقاً نقدٌ سينمائي نافذ ومؤثّر في الناس والمبدعين، وفعّال في فكرنا وثقافتنا؟

6- هل توصّلت أفلامنا، يوماً، بخلاف استثناءات في الماضي مع مبدعين كبار، كصلاح أبو سيف ويوسف شاهين في بعض أفلامه، كـ"القاهرة 30" و"الأرض" و"العصفور"؟ هل نجحت في إيجاد هذه المعادلة الصعبة بين لذّة المُشاهدة وعمق الطرح وذكائه؟ صراحة، شخصياً، لم أعد آمل كثيراً في السينما العربية. تَنَاوُل إنتاجاتها في بلدٍ تلو آخر، يكشف أنّ الحصيلة تكاد تكون مخجلة، كَمّاً وكيفاً. عالم فيه ما يتجاوز 400 مليون نَسمَة، بإمكانات ضخمة بما فيها المالية، بل خاصّة المالية، لا يزال يعيش في عصر صورة، يمكن نعته بـ"عصر الصورة الحجري".

هل أبالغ؟ ربما لستُ مبالغاً. أقول إنّ هذا عار علينا نحن العرب.

لكنْ، هل نحن حقاً بحاجة إلى السينما؟ لو كنّا بحاجة حقيقية إلى هذا الفنّ، لخلقناه وطوّرناه. الحاجة تَخلقُ من لا شيء أشياء. أليس كذلك؟

المساهمون