في الرابعة والثمانين من عمره، وفي ظلّ أزمة كورونا التي زادت من عزلته، لا يزال الفنان البريطاني ديفيد هوكني (1937) يناوش العالم بلوحات جديدة، توقفنا أمامها عاجزين عن النطق، وهذه المرّة عبر جهاز الآيباد؛ فالفنان الذي بدأ حياته كأحد أبرز فناني البوب الأشهر في العالم بداية ستينيات القرن الماضي، لم يتردد لحظة أمام تحويل هذا الجهاز الصغير، إلى أداة يرسم من خلالها عالماً افتراضياً، سرعان ما تحقق في 116 لوحة ضخمة، يستضيفها مركز بوزار الثقافي في بروكسل، في معرض ضخم بدأ منذ الثامن من أكتوبر/تشرين الأول الحالي، ويستمر حتى منتصف العام المقبل.
لا يقتصر المعرض الضخم لهوكني على لوحاته الأحدث فقط، بل يضم كذلك قسماً آخر، يزخر بأشهر أعماله التي صنعت شهرته، ومنها سلسلة لوحاته عن والديه وأفراد عائلته وأصدقائه، وسلسلة المسبح التي بيعت إحدى لوحاتها بـ 90 مليون دولار قبل عدة سنوات، وصنعت منه الأسطورة التي نتحدث عنها اليوم.
يحتفي المعرض كذلك بصدور ثلاثة كتب مهمة عن - وبالمشاركة مع - هوكني، على رأسها كتاب مارتن جيفورد المعنون "رسالة أكبر: محادثات مع ديفيد هوكني"، متضمناً محادثات أجراها الناقد الفني المعروف مع هوكني خلال فترة إغلاق كورونا، وهي في أغلبها محادثات عميقة وذكية، نجده خلالها يعرب عن ولعه بالحياة من خلال استمتاعه بأبسط الأشياء التي يراها في عزلته يومياً: منظر شروق الشمس بعد أيام من المطر مثلاً، مرور غيمة عابرة على أشجار حديقة منزله الذي اشتراه مؤخراً في نورماندي الفرنسية، سقوط المطر في بركة حديقته الراكدة.. كلها أشياء يثمّنها هوكني ويحتفي بها في لوحاته الأحدث، كأنه أراد أن يجعل من جهاز الآيباد -الذي تسرق شاشته الجميع إلى عوالم افتراضية غير ملموسة - إلى وسيط يعيد الناس عبره إلى الطبيعة من جديد.
من الكهف إلى شاشة الكمبيوتر
في خضم أزمة كورونا، شارك هوكني سلسلة من اللوحات التي رسمها على جهاز الآيباد الخاص به عبر موقع BBC على الإنترنت. تظهر اللوحات جميعها مشاهد لأشجار وسهول ووديان. ليس هناك وجود بشري في أي من هذه اللوحات، كما لو كان هوكني يرينا دورة الفصول على حديقته كمجاز للحياة والموت، ولا يبدو على الرجل العجوز أي يأس، بل على العكس، قدم لوحاته الأخيرة رافعاً شعار "أحبّوا الحياة".
اكتسب مارتن جيفورد، الناقد الفني والأدبي البارز في مجلة The Spectator الإنكليزية الشهيرة، شهرته الكبيرة من كتابه عن فرويد والمعنون "لوسيان فرويد.. اللوحات النحاسية" Lucian Freud, The Copper Paintings، والذي ظهر عام 2012، كاشفاً فيه عن لوحات النحاس التي أولع فرويد برسمها بداية القرن العشرين، وكشف فيه جيفورد عن أول صور تعرض لعشرة أعمال نحاسية كلها صغيرة الحجم رسمها فرويد.
بين جيفورد وهوكني اليوم علاقة تمتد إلى ما يزيد عن 25 عاماً، وإن كانت صداقة تفصلها الكثير من المسافات، لكنهما عادة ما يتواصلان عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني. سنوات تثمر بين أيدينا اليوم ثلاثة كتب، كان أولها: "رسالة أكبر.. محادثات مع ديفيد هوكني" A bigger message, Conversations with David Hockney، والذي صدر عام 2011، ثم أصدر جيفورد كتابهما الثاني: "تاريخ من الصور.. من الكهف إلى شاشة الكمبيوتر" A history of pictures. From the cave to the computer screen عام 2016، ليتبعه بكتابه الأخير: "لا يمكن إلغاء الربيع.. ديفيد هوكني في نورماندي - Spring cannot be cancelled, David Hockney in Normandy" والصادر أوائل عامنا الحالي 2021. وفيه يقدم هوكني العديد من الأفكار والشطحات الفنية والفلسفية اللامعة، ليقوم جيفورد بسردها علينا في قصة لا تضاهى.
أكثر مما نراه
امتلك هوكني، طوال تاريخه مع الرسم (ما يزيد عن 60 عاماً)، نظرة سحرية إلى الطبيعة، فالرجل مشغول على الدوام بتتبّع تبدّل الفصول، وله محاولات كبيرة في التأكيد على عجز الفوتوغرافيا أو كاميرا السينما عن رصد ونقل تغيّر ألوان شجرة ما أمام الطبيعة كما يفعل الرسم. من هنا، بدأ ولع هوكني المبكّر بأعمال فان غوخ وكلود مونيه، معتبراً الأول أعظم فناني الطبيعة على الإطلاق، والثاني راهبها، الذي أمضى 43 عاماً وهو يرسم تبدّل ألوان زنابق الماء في حديقة بيته الخلفية. يهزّ هوكني رأسه في أحد مشاهد الأعمال الوثائقية التي يعرضها مركز بوزار لجمهور معرضه وهو يقول: "يا لها من حياة، نتيجة تلك النظرة الفاحصة، أظهر لنا مونيه أكثر مما نراه عادة بأنفسنا".
يقف هوكني مبهوراً أمام أعمال فان غوخ حتى يومنا هذا. يقول مشيراً إلى فترة انعزال فان غوخ في مدينة آرل الفرنسية: "انظر إلى ما رسمه هناك، الساحة القبيحة أمام منزله، جسر السكة الحديد، كرسيان عاديان، عاش هناك منعزلاً، فبدأ في النظر إلى الأشياء عن كثب، ليجعلنا نرى العالم بشكل مختلف ومغاير عما كنا نراه من قبل".
ولد ديفيد هوكني عام 1937 في برادفورد، على بعد ساعتين بالسيارة من بريدلينغتون الإنكليزية. قرر في سن الحادية عشرة أن يكون فناناً، من دون أن يعرف بالضبط ما يعنيه ذلك، حتى جاءت انطلاقته عام 1961، عندما لفت الأنظار على الفور إلى موهبته الفريدة في رسم لوحات منعشة بشكل خاص وتعكس روح العصر.
بحلول نهاية عقد الستينيات من القرن الماضي، كان اسم هوكني على كل لسان كأحد أبرز نجوم جيله من الفنانين الجدد، وامتدت شهرته إلى ما هو أبعد من عالم الفن التشكيلي، ليقتحم مجالات الصورة بكل أشكالها الفوتوغرافية والسينمائية، وهو النجاح الذي يرده جيفورد في كتابه إلى: "القوة الاستثنائية التي تمتلكها أعمال هوكني، يقف المشاهدون أمامها عاجزين عن فهم سر قوّتها، وهي التي تبدو لوحات بسيطة عن أشجار أو حقول ممتدّة على مدى البصر، لكنها، لفرط بساطتها الآسرة تلك، لم تعد بسيطة أبداً".
انتهج هوكني في بداية مشواره الفني أسلوباً فنياً أطلق عليه "المذهب الطبيعي"، والذي أنتج في إطاره الكثير من أعماله المشهورة في عقد السبعينيات، مثل السيد والسيدة كلارك وبيرسي Mr and Mrs Clark and Percy ، والتي رسمها بين عامي 1970 و1971، وصورة والديه المشهورة، لكنه بعد فترة وجيزة شعر أن هذا الأسلوب يقيده ويحد مما يريد رسمه، فبدأ البحث عن طرق لتجنب الوقوع في مأزق المذهب الطبيعي. لتصبح أعماله منذ هذا الوقت متنوعة ومتباينة على مر السنين.
بنقرة واحدة
كتب جيفورد أن هوكني: "سعى طوال تاريخه إلى اكتشاف طرق تشكيلية جديدة لتمثيل العالم بشكل يختلف عما تفعله عدسة الكاميرا الفوتوغرافية، التي فشلت في رأيه في القبض على سحر الطبيعة". لذلك، نجد أن ما يسحر هوكني هو كيفية رسم المساحات الممتدة على مرأى البصر، بارتفاع وانخفاض مستوياتها الجغرافية، على سطح مستوٍ هو اللوحة. يقول هوكني وهو يتأمل لوحته الشهيرة A bigger Grand Canyon en A closer Grand Canyon، والتي رسمها عام 1998: "لا يمكن للصور نقل المناظر الطبيعية بكل ما فيها من ألوان ودرجات، لأن التصوير الفوتوغرافي يرى كل شيء دفعة واحدة، بنقرة واحدة، ومن وجهة نظر واحدة. لكننا ننظر إلى الأشياء بشكل مختلف. حقيقة أن الأمر يستغرق وقتاً طويلاً لرؤية المشهد بأكمله، هو ما يصنع سحر الفضاء الطبيعي للمشهد. لأن عيوننا لا ترى كل شيء دفعة واحدة، بل على مراحل، حتى تتكون صورة نهائية في عقولنا عن المشهد، وهو ما تعجز الفوتوغرافيا عن تقديمه لنا، فالطبيعة لا تخضع لقانون السكون والثبات الذي تقدمه الفوتوغرافيا".
في عمر الرابعة والستين، أعاد هوكني نفسه إلى مقاعد الدراسة، ليضع الفنانين القدامى الكبار تحت مجهر فحصه، الذي ظهر عام 2001 في شكل كتاب مثير بعنوان "المعرفة السرية.. إعادة اكتشاف التقنيات المفقودة للأستاذة القدامى" Secret Knowledge, Rediscovering the lost techniques of the Old Masters ، ليكشف فيه عن مقوّمات مؤرّخ مهم في عالم الفن، حيث توصّل إلى أطروحة مفادها أن الرسامين الأوروبيين، في غالبيتهم، استخدموا المفهوم الفوتوغرافي ذاته في لوحاتهم، من خلال الصور التي صنعتها العدسات والمرايا، قبل وقت طويل من الولادة الرسمية للتصوير الفوتوغرافي منتصف القرن التاسع عشر.
منذ بدايته، كان هوكني مهتمًا بالتكنولوجيا الجديدة وكيفية استخدامها في صنع الفن. نستطيع أن نقول إن الرجل لم يترك شيئاً إلا وجرّبه، بدءاً من كاميرا بولارويد polaroid الفوتوغرافية، ومروراً بآلات النسخ الضوئي وأجهزة الفاكس، وصولاً إلى التجربة التي قام بها قبل عدة سنوات، حين استخدم تسع كاميرات عالية الدقة مثبّتة على شبكة سيارة يقودها مساعدوه، وصور المشاهد الطبيعية المحيطة به في الريف الإنكليزي الهادئ، في تجربة عرضت على شاشة مقسمة إلى تسعة أقسام، ليقدم هوكني من خلالها محاولة أخرى لتصوير المناظر الطبيعية، وها هو اليوم يجعل من جهاز الآيباد وسيطاً يرسم من خلاله أعماله الجديدة، متخلياً عن الفرشاة التقليدية والأقمشة والدهانات.
في كتابهما المشترك الثاني: "تاريخ الصور"، يقدم مارتن جيفورد مع ديفيد هوكني نظرة مزدوجة إلى تاريخ الفن قديمه وحديثه، مؤكّدين المقولة التي لا يملّ هوكني من ترديدها على آذان جيفورد: "عندما ينظر شخصان إلى الصورة نفسها، لا يريان الشيء ذاته أبداً". لذلك، مثلاً، يعتبر هوكني أن أي عمل فني مهما كان قدمه، يظل "عملاً معاصراً" ما دام لا يزال يؤثر علينا حتى اليوم، فالمعاصرة ليست شيئاً قاصراً على الجديد فقط، بل على قدرة العمل على العيش لقرون وقرون في مخيّلة الناس.