دفاتر فارس يواكيم: فيصل الياسري أقام في بلدان عدة وظلّت بغداد "حلمه"

دفاتر فارس يواكيم: فيصل الياسري أقام في بلدان عدة وظلّت بغداد "حلمه الوردي"

05 يونيو 2023
فيصل الياسري مع فارس يواكيم في باريس عام 1985 (أرشيف فارس يواكيم)
+ الخط -

بين المسرح والإذاعة والموسيقى، قضى فارس يواكيم (1945، مصر) عقوداً من حياته، مواكباً ومؤرّخاً ومشاركاً في أبرز محطات المشهد الفني العربي في القرن الماضي، وشاهداً على التحوّلات في عالم الفنّ. تنشر "العربي الجديد" كل يوم اثنين مذكرات يواكيم مع أبرز الفنانين والمنتجين والمخرجين والصحافيين العرب، مستعيدة محطات شخصية ولقاءات مع هؤلاء في القاهرة وبيروت وباريس، وغيرها من العواصم
 

ذات مرة داعبت المخرج العراقي فيصل الياسري مطلقاً عليه لقب "فصايل الياسري". اخترت ذلك اللقب لأنه يجمع في شخصه أكثر من شخصية وفصيلة. وُلد في العراق وفيه عاش المدة الأطول من حياته، قطعَتها إقامات في النمسا وألمانيا الديمقراطية وسورية والكويت والأردن. تزوج ثلاث مرات، كانت الزوجة الأولى نمساوية ارتبط بها أثناء إقامته في فيينا وأنجبت أكرم ورافد، وكانت الثانية فلسطينية – سورية هي الممثلة لينا باتع، تزوجها إبان إقامته في دمشق، ورافقته إلى بعض البلدان وهي أم جمانة الياسري. والثالثة تزوجها سنة 1985، وهي الممثلة العراقية هند كامل، وهي أم آخر الأبناء المهندس ديار. في العراق حمل لقب أبو ديار، وفي سورية كانوا ينادونه "أبو أكرم" على اسم ابنه البكر. وهو يجيد ثلاث لغات: العربية والألمانية والإنكليزية. واشتهر خلال مسيرته المهنية بما أخرجه للسينما والتلفزيون، لكنه كان مسبّع الكارات: المخرج، السيناريست، الصحافي، مؤلف القصص، المترجم، معدّ النصوص المسرحية، ومؤلف الكتب. 
كان ذلك هو الموجز وإليكم الأنباء بالتفصيل:
ولد فيصل الياسري سنة 1933 في مدينة المشخاب بالعراق. كان طالباً في المدرسة الثانوية حين نشر "في الطريق" (مجموعة قصص) ورواية "كانت عذراء". سنة 1952 سافر إلى فيينا لدراسة فن الإخراج التلفزيوني. نال درجة الماجستير سنة 1958، وعاد إلى بغداد وعمل مخرجاً في التلفزيون العراقي. لكن هذه العودة دامت أشهراً قليلة، إذ شدّ الرحال إلى ألمانيا الديمقراطية فعمل مخرجاً في تلفزيون برلين (الشرقية). وفي أواخر 1965 زار دمشق مع وفد من التلفزيون الألماني، فعرض عليه مدير التلفزيون السوري أن يبقى في دمشق، فوافق وبدأت مرحلة الإقامة السورية. 
في دمشق عمل في التلفزيون مستشاراً ثم رئيساً لقسم التمثيليات ثم ارتقى إلى رتبة مدير البرامج. وسنة 1968 أخرج أول فيلم روائي للتلفزيون السوري "الرجل" عن رواية لسعيد حورانية، وكان من بطولة منى واصف ويوسف حنا ولينا باتع. وفي دمشق مارس هوايته في الحضور بكل فروع الإعلام والثقافة. في الصحافة كانت له مقالة يومية في جريدة "الثورة". وللإذاعة كتب البرنامج الثقافي "الجواب قبل السؤال". وللتلفزيون أعدّ برامج منوعات، واشترك مع رفيق الصبان في إعداد وتقديم "شوامخ المسرح العالمي"، و"قوس قزح". وكتب سهرات تمثيلية تلفزيونية مثل "مركب بلا صياد"، و"رجل الساعة" من إخراج سهيل الصغير. على أن أشهر مسلسلاته ظلّ "حمام الهنا"، وهو من إعداده (مقتبساً من الفيلم الألماني "الكراسي") ومن إخراجه، وبطولة دريد لحام ونهاد قلعي، وكوكبة من نجوم الكوميديا السورية. أما في المسرح فاقتبس مسرحية "الأم" للروسي مكسيم غوركي وأخرجها. كما أخرج مسرحية "كيف تركت السيف" عن نصّ الشاعر ممدوح عدوان. وأعد مسرحية "العنب الحامض" التي أخرجها علي عقلة عرسان، واشترك مع علاء الدين كوكش في إخراج مسرحية "لا تسامحونا". وأما في السينما فكتب سيناريو "مقلب من المكسيك" أخرجه سيف الدين شوكت وكان من بطولة الثنائي دريد ونهاد. وفي فيلم "غراميات خاصة" اشترك سيف الدين شوكت معه في كتابة السيناريو، وكان الإخراج لفيصل الياسري، والبطولة لناهد شريف وعمر خورشيد. ومن أفلام الياسري "عودة حميدو" عن قصة للأخوين رحباني. ومن كتابته وإخراجه أفلام "حب وكاراتيه" (بطولة مديحة كامل)، و"هاوي مشاكل"، و"عشاق على الطريق"، و"جزيرة النساء"، وفي هذه الأفلام شاركت زوجته لينا باتع في أداء الأدوار. 
وكان فيصل الياسري كثير التردد على بيروت إثناء إقامته في سورية، وتعارفنا آنذاك في العاصمة اللبنانية. وفي استوديو خاص بلبنان أخرج بعض المسلسلات التلفزيونية من تأليف ياسر المالح، مثل "فرسان الزمان" (عن شخصيات تاريخية مثل سيبويه والفيروز آبادي)، و"فرسان الهوى" (عن أشهر العشاق في التاريخ العربي). وهو كان يحرص على حضور الندوات الثقافية، وعلى متابعة المسرحيات المعروضة في بيروت، وعلى مشاهدة الأفلام السينمائية الأجنبية التي لم يعرض معظمها في دمشق.  
رافقته زوجته لينا باتع إلى بغداد سنة 1976 حين انتهت إقامته على ضفاف بردى وقد دامت عشر سنوات وبضعة أشهر. وشاركت بالتمثيل مع قاسم محمد وإبراهيم جلال وطعمة التميمي في أول فيلم عراقي روائي من تأليفه وإخراجه، فيلم "الرأس". تلاه فيلم "النهر" عن سيناريو وحوار لشاعر الأغاني زهير الدجيلي، وكان من بطولة نقيب الفنانين العراقيين حقي الشبلي. ولم يهمل المسرح فأعدّ نص "رحلة بالصحون الطائرة" عن المسرحية الألمانية "هل تعرف مجرة درب التبان" لكورت فيتلنغر. وقد اختارها يوسف العاني سنة 1976 لفرقة المسرح الفني الحديث، وأخرجها إبراهيم جلال، ومثلها سامي عبد الحميد وقاسم محمد.   
في سنة 1976 نشأت "مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي" بمساهمة دول مجلس التعاون والعراق، وكان مقرّها الرئيسي في الكويت، ومن أهدافها إنتاج البرامج التلفزيونية التي تحمل رسالة توعية عامة وتربوية. برامج ضخمة الإنتاج لا تملك محطة تلفزيون بمفردها إمكانات إنتاجها. وكانت باكورة إنتاجاتها مسلسل الأطفال الشهير "افتح يا سمسم"، وقد تألف الجزء الأول من 130 حلقة. كان الإنتاج بالتعاون مع المؤسسة الأميركية "ورشة الإنتاج التلفزيوني للأطفال" منتجة برنامج "شارع السمسم" الذي اقتبس إلى نحو عشرين لغة. 
بدأ الإعداد لإنتاج "افتح يا سمسم" أواخر 1977، وقد اختير فيصل الياسري ليكون المخرج والمشرف العام على التنفيذ، فانتقل للإقامة في الكويت، ووقع الاختيار عليّ ضمن مجموعة من الكتاب العرب مؤلفاً للمشاهد التمثيلية. وساهمت في كتابة القسم الأكبر من الحلقات ومثلي الكاتب العراقي زهير الدجيلي. وكان الكاتب القطري أحمد عبد الملك والمصري عبد التواب يوسف من أبرز الكتاب الذين ساهموا في تأليف الحلقات. وفي إطار هذا البرنامج كان التعاون المهني الأول بيني وبين فيصل الياسري. وحين استدعيتُ إلى الكويت التقيت في المؤسسة ببعض الأصدقاء القدامى، ومنهم ياسر المالح (رئيس التحرير)، وأسامة الروماني (منسق البرنامج ولاحقاً أخرج بعض الحلقات)، والعراقي فاروق القيسي (مشرف المونتاج)، وكان زميلي في الدراسة في المعهد العالي للسينما بالقاهرة. 
استمر فيصل الياسري مخرجاً للبرامج كافة التي أنتجتها "مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي" لغاية 1990. وكلها على غرار خلطة "افتح يا سمسم" أي مشاهد تمثيلية، ورسوم متحركة، وأغان، ودمى. أخرج فيصل الياسري الجزأين الثاني والثالث من "افتح يا سمسم"، وبرنامج التوعية الصحية "سلامتك"، وكنت فيه رئيس التحرير وكاتباً لنصوص بعض الحلقات. وإلى هذا البرنامج وفد صديقان من سورية للمشاركة في الإخراج: هيثم حقي وسليم صبري. ثم "قصص خليجية"، وكنتُ المشرف على إنتاجه وكاتبَ بعض الحلقات. و"ديرتنا" (برنامج اجتماعي)، و"الكشاف" (لتبسيط العلوم) وكنتُ فيه رئيس التحرير. 

وكان فيصل الياسري ينتهز فرصة العطلة السنوية، فيبادر إلى إخراج الأفلام والمسلسلات العراقية والعربية. وبرغم نجاحه في "مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي" كان حريصاً على الوجود في المشهد الثقافي العربي. سنة 1979 أخرج الفيلم العراقي "القناص" وموضوعه عن الحرب الأهلية اللبنانية. كلّفني بمهمة اختيار بطل وبطلة لبنانية فرشّحت روجيه عساف وآمال عفيش، وجرى التعاقد معهما. كما كان فيصل الياسري يرغب في إشراك الشاعر الشهير نزار قباني ليلقي في الفيلم قصيدته "يا ستّ الدنيا يا بيروت"، وكنتُ صلة الوصل بين المخرج والشاعر بحكم صداقتي مع كليهما. وكانت المرة الوحيدة التي ظهر فيها نزار قباني في فيلم سينمائي مؤدياً دوره الحقيقي في الحياة. وفي سنة 1984 أخرج المسلسل التلفزيوني "المرايا" عن نص كتبه رفيق الصبان، وشارك في أداء الأدوار كوكبة من نجوم التمثيل العرب: من مصر صلاح ذو الفقار وسميحة أيوب وعايدة عبد العزيز، ومن سورية هاني الروماني، ومن الكويت إبراهيم الصلال، ومن البحرين قحطان القحطاني، ومن السعودية عبد الناصر الزاير، ومن العراق الممثلة هند كامل التي صارت بعد سنة زوجة فيصل الياسري. وفي عطلة 1987 أخرج الفيلم العراقي "بابل حبيبتي" من بطولة المصري يحيى الفخراني وسماح أنور وهند كامل ويوسف العاني. وقبل أن يتوقف التعاون بين فيصل الياسري و"مؤسسة الإنتاج البرامجي المشترك لدول الخليج العربي" بسبب عدم التفاهم مع الإدارة الجديدة للمؤسسة، أخرج سنة 1990 مسلسل الأطفال "الدفتر الأزرق"، من إنتاج "شركة هلا" الكويتية. وكنتُ كاتب القصة والسيناريو، بيد أن فيصل الياسري ارتأى إدخال الأغاني والمقامات العراقية، ولم أوافقه الرأي، فاكتفى بقصتي وصاغ هو السيناريو. 
خلال غزو العراق للكويت في أغسطس/آب سنة 1990، غادر فيصل الياسري الكويت، واستقر به المقام في بغداد. وأنتج وقدّم في التلفزيون العراقي برنامجاً سياسياً بعنوان "الملفّ" الذي لخّص آثار العمليات العسكرية على البنية التحتية، والخدمات على المواطنين العراقيين في حرب "عاصفة الصحراء". انقسمت الآراء بشأن البرنامج بين المؤيدين والمعارضين، ليس من منطلقات فنية، وإنما بسبب مواقف سياسية، كما كانت الحال يوم أخرج في دمشق سنة 1971 الفيلم الوثائقي "اللقاء العظيم"، بمناسبة انتخاب حافظ الأسد رئيساً للجمهورية السورية.  
في فترة الإقامة العراقية الأخيرة، كان مؤسس "تلفزيون بغداد الثقافي" ومديره عامي 1994 و1995. وتعاون مع "راديو وتلفزيون العرب" ART متولياً إدارة إحدى القنوات التابعة لهذه المؤسسة. ثم استقال فعاونه رجل الأعمال السعودي صالح كامل (صاحب ART) في تمويل إنشاء المحطة الفضائية العراقية "الديار" التي كان فيصل الياسري المساهم الأكبر فيها ومديرها العام. وفيها أشرف على إنتاج برامج تمثيلية، ومنها "الطرائف الغريبة والنوادر العجيبة" تأليف معاذ يوسف وإخراج سلام الأمير. وللمخرج نفسه مسلسل "شمس الصباح" (من بطولة هند كامل). 

فيصل الياسري، صاحب المشاريع الفنية المبتكرة، قدم في سنة 1982 أول فيلم كرتون عراقي من إنتاج التلفزيون العراقي: "الأميرة والنهر"، وتولى الإشراف عليه والمعالجة السينمائية، وهو فيلم يحكي عن قصة من قصص وأساطير ما قبل التاريخ في بلاد الرافدين. ثم فيلم "عودة علاء الدين"، وكان يعمل على "ملحمة غلغامش". كما أسس الياسري قسم الرسوم المتحركة في وزارة الثقافة العراقية، وأوفد بعض الفنانين الشباب إلى ألمانيا لتعلّم تقنيات الرسوم المتحركة. وكان فيلم "بغداد حلم وردي" الذي كتبه وأخرجه سنة 2013 آخر أفلامه مخرجاً، ومن بطولة سامي عبد الحميد ويوسف العاني وهند كامل.
وحتى يكتمل بورتريه فيصل الياسري، أذكر أنه ترجم قصائد لبريشت، ونشر "إني على حبّك باقية" ترجمة لقصائد في الحب لشاعرات من عصور وأمصار مختلفة؛ وألف كتباً، منها "غربال الذاكرة" عن شخصيات عرفها، و"كيف تفهم النساء في 60 دقيقة، والرجال في 60 دقيقة"، و"اغتيال المتنبي" مقتفياً أثر الشاعر في اليوم الأخير من حياته، و"احذر نحن نراك.. الإعلام في عصر التقنيات الإلكترونية أكثر من سلطة رابعة". وقام بترجمة وإعداد كتاب "الحياة المعلنة والخفية للمشاهير". 
وكان في السنوات الأخيرة قد اقتنى داراً في عمان، وفي تشرين الأول/أكتوبر سنة 2022 توفي في العاصمة الأردنية، ونقل جثمانه ليدفن في العراق.        

المساهمون