الصور وفلاترها... ليست دليلاً على ما حدث في الماضي

الصور وفلاترها... ليست دليلاً على ما حدث في الماضي

27 يوليو 2022
تعديلات على سمات الشخص الفيزيولوجية وهويته الشكلية (Getty)
+ الخط -

يتصدر اليوم تطبيق BeReal، قائمة شبكات التواصل الاجتماعي على متجر آبل، متقدمًا على تطبيقات مثل واتساب وماسنجر، وغيرها من منصات شركة ميتا بلاتفورمز، ليغدو التطبيق الصادر عام 2019، منافسًا شرسًا لوسائل التواصل الاجتماعي الأخرى مثل تيك توك وإنستغرام وفيسبوك... بانيًا نجاحه على عيوب ونواقص تلك التطبيقات، مقدمًا لمستخدميها تجربة مغايرة، إن لم تكن مناقضة تمامًا، لما عرفوه في الآونة الأخيرة. 
يفشي اسم التطبيق محتواه؛ إذ يدعو BeReal مستخدميه إلى نشر صورة واقعية واحدة فقط يوميًا، على ألا تتجاوز المدة الفاصلة بين التقاط الصورة ونشرها الدقيقتين، من دون استخدام أي فلاتر أو تقنيات تعديل اللقطات، إذ يزيل التطبيق كل خيارات تعديل وتأطير وتجميل الصور، ويختصر وقت النشر لمنع إعادة التفكير بالمنتج النهائي، واصفًا نفسه على أنه "التطبيق الأول غير المسيطر عليه"، لمشاركة اللحظات الأصلية عبر الصور. أما توقيت الصورة، فهو عشوائي، يختاره التطبيق لا المستخدم الذي ما عليه إلا أن ينصاع لأمر الإشعار المرسل إليه لتذكيره بنشر الصورة "الواقعية".
جاء التطبيق الجديد على خلفية احتجاجات عديدة سابقة له، انتقدت صيحة "الفلاتر" على وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة تلك التي تتلاعب بمعايير الوجه الطبيعي وبنيته، سواء عبر ملء الشفاه أو تكثيف الرموش، أو حتى تغيير لون البشرة وإخفاء عيوبها. لم يعد يقتصر الأمر على صور ثلاثية الأبعاد، أو إضافات مضحكة مثل القبعات أو شعر الوجه أو آذان الكلاب والقطط وأنوفها، بل امتد ليشمل تعديلات على سمات الشخص الفيزيولوجية وهويته الشكلية. 
لم يكن التطبيق هو الأول في توجهه المناهض للفلاتر Anti-Filter، إذ تناولت العديد من الترندز على وسائل التواصل الاجتماعي تلك الإشكالية المعاصرة، عبر حملات وهاشتاغات، آخرها كان على "تيك توك"، عندما شجع بعض مستخدمي التطبيق التقاط صورة بلا فلتر، تقابلها أخرى مفلترة تظهر الفارق الشاسع بين اللقطتين. أما بعض الاحتجاجات الأخرى، فجاءت على خلفية قانونية، منها الدعوى القضائية التي رفعها المدعي العام في تكساس، كين باكستون، ضد شركة ميتا، يتهمها بجمع القياسات البيومترية والفيزيولوجية للمستخدمين عبر بيانات الفلاتر، ومنها بصمات الأصابع ومسحات قزحية العين وغيرها من محددات الهوية الشخصية، لأغراض تجارية وخادعة.

تخدش تلك الادعاءات على اختلافها سطح الواقع الجديد والمحير للعصر الرقمي؛ إذ تغير الثورة التكنولوجية الحاصلة اليوم عالم التصوير الفوتوغرافي بشكل كامل، وتعيد تعريف علاقة الإنسان بالكاميرا كمنتج للصورة وكمشاهد لها أيضًا، كما تلعب دورًا مهمًا في صياغة المفاهيم والمعايير الجمالية الشائعة، مؤثرة بشكل واسع على الحالة الذهنية والنفسية لمستهلكيها. توضح دراسة أجرتها جامعة لندن في عام 2021، أن 90% من النساء أبلغن عن استخدام فلتر قبل نشر الصورة لتوحيد لون بشرتهن، أو لإعادة تشكيل الفك أو الأنف، أو للتخلص من الوزن، وغيرها من التعديلات الشكلية. وفي حين باتت كل تلك المعلومات متوقعة من قبل مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي ومتابعيها، تبرز اليوم إشكالية جديدة تتمحور حول الصورة وعلاقتها بالذاكرة الفردية والجمعية، إذ تثير الصور المفلترة الجديدة أسئلة مثيرة للاهتمام حول هوية الشخص في لحظة معينة من الزمن.

جاء التطبيق الجديد على خلفية احتجاجات عديدة سابقة له، انتقدت صيحة "الفلاتر"

الصورة، في أبسط تعريفاتها، هي "تمثيل حرفي لما يقف أمام العدسة " في زمان ومكان محددين. وهي وسيلة لحفظ الذكريات بوصفها جزءًا مهمًّا من سيرتنا الذاتية، ومن هوياتنا الثقافية ضمن إطار زمني تاريخي محدد. بعيدًا عن كونها مخزنًا للاحتفاظ بشذرات الماضي، تخلق الصورة "إحساسًا بالماضي" أيضًا، وتشكل مستودعات تحمل خبراتنا ومعارفنا السابقة لاستخدامها خلال المستقبل. "من دون الذكريات الشخصية"، يشير البروفيسور اليوناني يانيس جالانوبولس، "لن يكون لدينا أي إحساس بالماضي أو المستقبل، وسنفتقر إلى أي شعور بالاستمرارية". معرفتنا لذاتنا، إذًا، تتأتى عن تراكم ذكرياتنا في شتى أشكالها الحسية والمادية، ومنها الصورة بوصفها إحدى أهم أدوات الذاكرة الوسيطة. 
الصورة الرقمية، كما سابقاتها عبر الزمن، تدعم تشكيل هويات الأشخاص وتساعدهم على تتبع شخصياتهم المتغيرة، وتوفر منصة للأداء أيضًا، حيث يتمكن الأفراد من التلاعب بهوياتهم الجسدية وتحويرها، وفق استعراض مدروس ومخطط له، استجابة لرغبة فطرية في الاستعراض كما تصفها نظريات علم النفس الحديثة.
تتيح الصور الملفترة، عبر وسائل التواصل الاجتماعي، إمكانية تحوير السردية الذاتية للفرد أيضًا، خاصة هيئته الشكلية، وإحدى أهم وسائلها في تحقيق ذلك هو الخيال، إذ تفسح الصورة المفلترة المجال للخيال بالدخول إلى حيز الواقع والحلول جزءًا لا ينفصل عنه، فتشكل مزيجًا مثاليًا للذاكرة بما هي خليط معقد بين الخيال والواقع.
وفي حين يكون الخيال مشذبًا في الذاكرة الواقعية، إلا أنه يغدو بلا حدود في الذاكرة الرقمية المصطنعة. تخلق تلك المرونة التي تُميز العالم المعاصر صراعًا حداثويًا مستمرًا بين الذكريات "الدقيقة" وتلك "المتلاعب بها" و "المزيفة" عبر الصور الرقمية، وأسئلة وجودية هامة تتساءل عمن نحن إذا ما كان تاريخنا الشخصي بأسره محرفًا؟ وكيف لنا أن نتعرف على ذواتنا ما دامت المعلومات التي نعرفها عن أنفسنا مضللة؟ الصورة، كما نعرفها اليوم، لم تعد دليلًا على حدث في الماضي، بل باتت تعاونًا بين العقل والآلة والثقافة.

سوشيال ميديا
التحديثات الحية

عملية تحتوي على كثير من الانسجام المتوقع بلوغه حد الاندماج بين الدماغ البشري والتكنولوجيا، والقليل فقط مما جرى فعلًا، فلا توثق اللقطة المفلترة حدثًا واقعيًا، ولا تترجم هيئة صاحبها بأمانة، بل هي "تنويعة" على الماضي، أو ربما احتمال لما هو ممكن، ليس ما هو موجود فعلًا، ما يجعلها أداة شديدة الفعالية في توثيق المرحلة وخصائصها، وأقل دقة في ما يتعلق بحفظ التاريخ الشخصي للأفراد. بالتأكيد، لن يشاهد ملتقط الصورة المعدلة نفسه بعد مرور سنوات، وإنما نسخة مغايرة افترضتها اللحظة وفق محددات فيسيولوجية وجمالية ومعايير معلبة تتغير بشكل متسارع. أي يغدو موضوع الصورة، وهو الشخص في هذه الحالة، مجرد منتج جديد لمنظومة فكرية وتسويقية وربحية لا تعبر عنه بالضرورة. 
ومع أن التكنولوجيا الجديدة تروج باستمرار لمفهوم "اليوميات"، وتؤكد على ضرورة توثيق كل وجهة يقصدها الإنسان وتدوين كل حادثة يعيشها، إلا أنها لا تبدي اهتمامًا واسعًا بتوثيق "الواقع" الفعلي للأفراد كما هو، بل تظهر بوصفها واقعًا مغايرًا، يوثق ما يعيشه "المواطنون الرقميون" (Digital natives) فقط. مصطلح يصف حجم انتماء مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، خاصة اليافعين منهم، لمنصاتهم الرقمية، إلى الحد الذي يدفع بعضهم إلى إجراء عمليات تجميل فقط لمشابهة صورهم المفلترة، وفق ظاهرة طبية باتت تعرف بـ Snapchat dysmorphia. 
يُروَّج للفلاتر على أنها متعة غير ضارة تُستخدم للترفيه عن الأشخاص وتحسين مظهرهم، أو هواية هدفها إضحاك الآخرين. ومع أن المخاطر عالية، وليس بوسع تطبيق BeReal مواجهتها وحيدًا، إلا أن من الصعب معرفة كيف ستبدو تلك الصور المحرفة في أعين أصحابها مستقبلًا، ولا يزال أثرها في بناء الهوية الذاتية غير معروف حتى الآن. ما نعرفه بالتأكيد أن تلك الظاهرة ستساهم في خلق أنماط وعادات ثقافية مغايرة لما كانت تنتجه صور يبقيها أصحابها في ألبومات محكمة، بعيدًا عن عوامل الضوء والرطوبة.

المساهمون