البريء والرشاش والناي

البريء والرشاش والناي

13 يونيو 2023
لعب أحمد زكي دور البطولة في "البريء" (فيسبوك)
+ الخط -

أُنتج فيلم "البريء" عام 1986. ومنذ ذلك الوقت، لم يُعرض كاملاً في دور السينما أو على شاشات التلفاز. المرة الوحيدة التي أتيحت فيها للجمهور مشاهدة نهاية الفيلم التي حذفتها الرقابة كانت عام 2005، بعد تدخل من وزير الثقافة آنذاك، فاروق حسني، في مهرجان السينما القومي، وبمناسبة تكريم أحمد زكي، بطل الفيلم، الذي أدى فيه دور الجندي أحمد سبع الليل، وهو من أفضل أدواره، إضافة إلى دوره في "الهروب" من إنتاج 1991. كلا الفيلمين من إخراج عاطف الطيب، الذي قدّم أفلاماً تُعتبر عن حق من أفضل ما أنتجته السينما المصرية، رغم أنه رحل عن عمر مبكر (47 عاماً).
يمكن تصنيف أفلام الطيب ضمن مفهوم الواقعية الجديدة إذا صح الوصف، وهي نقدية ومسيّسة، لكن من دون أن تسقط في المُباشَرة الفجة، أو تتخلى عن جمالياتها ولغتها السينمائية اللمّاحة، ما جعل ولادة بعض أفلامه تتعسّر وبعضها يتم وأده بعد إنتاجه مثل "الزمّار" (1985) الذي لم يعرض في دور السينما على الإطلاق، وهو مأخوذ عن مسرحية "هبوط أورفيوس" لتينيسي وليامز.
ولو شاهدتَ الفيلم، وهو متاح على "يوتيوب"، وقارنته بـ"البريء"، لخَلُصت إلى أن الأخير أولى بالمنع، فهو يقارب القمع السياسي بطريقة عارية من أي استعارات من خارجه، فلا تلميح أو اختباء وراء رموز، بل ذهاب إلى الثيمة بشكل مباشر، عبر أكثر تجلياتها رعباً، وهي السجون، وبتشريح عناصرها الفاعلة وحقل فاعليتها، وهي المواطنون الذين يتجرأون ويعارضون. ويفعل الطيب ذلك عبر تفكيك المنظومة الفكرية التي تنتج هذه الظاهرة، بل السخرية العميقة منها، فالدفاع عن الوطن من الأعداء شعار يُرفع ليقول غير ما يفترض أن يقوله، فلا الوطن مهدد ولا الأعداء المستهدفون في الفيلم هم أعداء حقاً للوطن أو سواه. ويُحسب للطيب، وبالتأكيد لوحيد حامد، السيناريست الذي كتب قصته والسيناريو والحوار، ذكاؤهما في بناء الشخصية الرئيسية، أحمد السبعاوي (أحمد زكي) الفلاح البسيط، بل الساذج بتطرف، والذي يجد نفسه مجنداً في سجن يضم معتقلين سياسيين، وبعضهم طلاب اعتقلوا على خلفية ما تسمى في مصر بانتفاضة الخبز التي وصفها الرئيس السادات بانتفاضة الحرامية. فالشاب الساذج الذي يقتلع من قريته رغماً عنه، يجد نفسه في الصحراء، بلا أي عزاء عن ابتعاده عن أمه وأرضه اللذين يحتاجان إليه، سوى إيمانه الأعمى والمطلق بأنه هناك دفاعاً عن الوطن من الخونة. يبدأ التحوّل في شخصيته عندما يأتون بابن العمدة، صديقه منذ الطفولة، ضمن دفعة من المعتقلين، فيرفض المشاركة في ضربه، كونه يعرفه ويعرف أنه ليس عدواً للوطن، فيحلّ عليه غضب الضابط الذي يأمر بسجنهما معاً، ويُدخل أفاعي إلى زنزانتهما للتخلص منهما، فيموت حسين وهدان بلدغة أفعى، ويعود سبع الليل إلى الخفارة على برج المراقبة. وعندما يحضرون دفعة جديدة من المعتقلين، يطل سبع الليل من عليائه وفي يده نايه والأخرى رشاشه، قبل أن يبدأ بالصراخ وإطلاق النار على الضابط والجنود.
حذفت الرقابة عملية القتل كلها، وأنهت الفيلم بصرخة سبع الليل الغاضبة. وربما من المفيد هنا أن نذكر أن لجنة الرقابة تشكلت في حينه (1986) بأمر من مجلس الوزراء المصري، وضمت وزراء الدفاع والداخلية والثقافة (عبد الحليم أبو غزالة، وأحمد رشدي، وأحمد هيكل) الذين شاهدوا الفيلم وأوصوا بحذف نهايته، لكنهم لم يتنبهوا لثنائية الرشّاش والناي التي كانت دوافع المجند سبع الليل تتأرجح بينهما، فبينما كان يكافح للاحتفاظ بالناي، أي بإنسانيته، لتجبره العسكرية نفسها على تنحية الناي جانباً لصالح الرشاش الذي عليه أن يؤدي دوراً مختلفاً في نهاية الفيلم، سواء حُذفت النهاية أو أُبْقي عليها، وهو التخلص من أعداء الوطن الحقيقيين الذين يهدرون كرامة أبنائه.
نحو أربعة عقود مرت على إنتاج الفيلم من دون أن تُعاد إليه نهايته الأصلية، وآن لها أن تعود تكريماً لعاطف الطيب على الأقل والإرث السينما المصرية ولمصر نفسها التي كفت عن ريادتها للأسف منذ استسلمت للعسكر الذين يرثون بعضهم بعضاً، ويكون لاحقُهم أقل تسامحاً وأكثر تشدداً من سابقيه.

المساهمون