الاعتقال والتعذيب: مشاهد سينمائية مؤجلة

الاعتقال والتعذيب: مشاهد سينمائية مؤجلة

20 ديسمبر 2020
يشارك عمرو واكد في بطولة فيلم "19-19" (جوليا راينهارت/ Getty)
+ الخط -

تسلط أزمة الباحث الإيطالي جوليو ريجيني الضوء على أوضاع حقوق الإنسان في العالم الثالث، وكيف تتعامل الأجهزة الأمنية مع المعارضين والمشتبه فيهم. في أزمة ريجيني العديد من اللقطات اليومية في الحياة المصرية، فأن يختطف شخص من بين أفراد أسرته وأن يعذب داخل محبسه حتى يموت، لم يعد حدثاً غريباً، بل هو سلوك تؤكده بعض القضايا المتداولة في المحاكم على استحياء، إضافة إلى تقارير مؤلمة تنشرها منظمات وهيئات حقوقية بصورة باتت منتظمة. ويبدو أن أبلغ ما قيل في هذا المجال هو عبارة والدة ريجيني: "قتلوه كما لو كان مصرياً"! في مجال الأفلام الوثائقية، لم يتمهل المنتجون حتى تنتهي قضية الشاب الإيطالي وتستبين معالمها كاملة في أروقة المحاكم، فظهر أكثر من عمل يستعرض أحداثاً درامية وشهادات وتصريحات: منذ ذهابه إلى القاهرة، ووصف طبيعة نشاطه البحثي، ثم مراقبته واستدراجه إلى غرف الاعتقال، ثم تعذيبه، وصولاً إلى قتله وإلقائه في الصحراء، مع تصعيد عملية البحث عن الجناة من الجانب الإيطالي ومماطلة الجانب المصري، إلى أن تكشفت خيوط الجريمة.   

الفيلم الوثائقي الإيطالي "حائط من الرمال"، كان أحد أوراق الضغط على السلطات الإيطالية كي لا تهمل القضية. الفيلم أنتجته صحيفة "لا ريبوليكا" في 2017، وتضمّن شهادات لوالد ريجيني والسفير الإيطالي بالقاهرة، وبعض المحققين. وفي 2018 أنتج "التلفزيون العربي" وثائقياً آخر بعنوان "تسعة أيام في القاهرة" حول القضية ذاتها. ولا يزال الباب مفتوحاً لمزيد من المعالجات. هناك تاريخ طويل من السياسات الأمنية المعروفة بقسوتها، إضافة إلى رصيد كبير من القصص التي يرويها معتقلون سابقون وترصدها المنظمات الحقوقية خلال التاريخ المصري، ويمثل ذلك مادة التقطت منها السينما الدرامية والوثائقية لقطات يسيرة ولكنها معبرة عن حجم المأساة.  

الرقيب منتجاً 
بعد 30 يونيو، صارت الأجهزة الأمنية أكثر تحكماً في الإنتاج الفني، فتجاوزت دورها التقليدي في الرقابة إلى عملية إنتاج الأعمال الفنية والإشراف عليها بنفسها، وهو ما يعني وأد أي فكرة نقدية لأي سلوك تمارسه السلطة. بل إن مطاردة بعض الفنانين المعارضين للنظام وتشويههم صار هو شغلها الشاغل عبر وسائل إعلامها وذبابها الإلكتروني. فيلم "اشتباك"، الذي أنتج في 2017، كان من الأفلام المستقلة التي تعرضت لواحدة من أفظع جرائم الاعتقال، لكنه انحرف كثيراً بتأويل الحادث لصالح المذنبين، ما سمح بتمريره، فلم يلق الفيلم ولا صناعه انتقاداً من السلطة. رسالة صناع الفيلم يختصرها العنوان الذي رأى أن الضحايا كانوا ثمرة اشتباك، وليس ضحية احتجاز. تدور القصة حول حادثة سيارة ترحيلات أبو زعبل التي قتل بداخلها 37 معتقلاً بعدما ألقيت بداخلها قنبلة غاز وتركوا جميعاً ليموتوا متفحمين، وهي الفاجعة التي اكتملت فصولها ببراءة الضباط المتورطين في عملية القتل. ويبدو هدف الفيلم واضحاً مع عبارة "دول لازم يموتوا"، التي ذكرت على لسان أحد الممثلين وهو ممسك بشفرة حادة يريد الاعتداء على أحد الإخوان المعتقلين.  

في الفترة الوجيزة التي يؤرخ لها بانطلاق ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 وحتى 30 يونيو/ حزيران 2013، عرضت القليل من الأفلام المستقلة التي تعرضت لعمليات التعذيب داخل المعتقلات، منها فيلم "18 يوم" (2011)، الذي يتضمن مجموعة من القصص المرتبطة بثورة يناير، منها قصة "19-19"، من تأليف عباس أبو الحسن وإخراج مروان حامد، وبطولة عمرو واكد وباسم السمرة وإياد نصار. وتدور أحداثها من داخل مقرات أمن الدولة، حيث يتم احتجاز ناشط سياسي، ويتعرض لجلسات تحقيق وتعذيب متتالية وهو معصوب العينين.  

تقارير عربية
التحديثات الحية

لكن بعد 30 يونيو اختفت هذه النوعية من الأفلام المصرية تماماً، رغم توالي الأحداث المؤسفة داخل المعتقلات، من بينها على الأقل ما جرى مع الرئيس المنتخب وموته داخل سجنه، وإن كانت بعض الأعمال القليلة التي تناولت القضية كانت خارج الحدود، مثل الفيلم الوثائقي "سحق المعارضة في مصر" (2016)، للمخرجة الأيرلندية أورلا غيرين، الذي بثته قناة "بي بي سي"، ويقدم مجموعة من الشهادات الحية لأشخاص تعرضوا للتعذيب. من بينها شهادة لسيدة سردت فيها تفاصيل اعتقال ابنتها زبيدة، حيث اتهمت قوات الأمن باعتقال الفتاة وإخفائها قسريا وهتك عرضها وتعذيبها. وبعد عرض الفيلم، ألقي القبض على أم زبيدة بتهمة الترويج لأخبار كاذبة من شأنها الإضرار بالمصالح الوطنية للبلاد، والانضمام لجماعة أسست على خلاف القانون! وفي إسطنبول عرض فيلم "بسبوسة بالقشطة" (2020)، للمخرج عبادة البغدادي، بطولة محمد شومان وهشام عبد الحميد. وهو يناقش العلاقة بين المعتقل والسجان، دون أن يربط ذلك بزمن محدد.  

دفاع عن الذات 
من البديهي أن كل نظام سياسي يرى في نفسه العصمة من دماء الأبرياء، وأن عشرات الآلاف الذين يُحشرون في زنازين غير آدمية ليسوا سوى حفنة من أعداء الوطن الذين يستحقون ما يحيق بهم. ولذلك يندر أن تجد معالجة فكرة الاعتقال السياسي للأبرياء وأصحاب الرأي وتعذيبهم إلا وهي تتحدث عن فترة زمنية سابقة انتهت تماماً. فالحقبة الملكية تنتج فيلم "أمير الدهاء" (1950)، لهنري بركات، بطولة أنور وجدي ومديحة يسري، وتجعل من أحداث الفيلم تدور زمنياً في العصر المملوكي. وفي الحقبة الناصرية يكون العصر الملكي هو زمن الأفلام التي تتضمن اعتقالاً وتعذيباً وتصفية جسدية، ويبرز البوليس السياسي (أمن الدولة لاحقاً، ثم الأمن الوطني)، باعتباره ذراع السلطة المستبدة التي تمارس فنون نزع الاعترافات من المعتقلين بشتى الوسائل، كهتك العرض، والجلد بالسياط، والكهرباء، ونزع الأظافر... وصولاً إلى القتل بدم بارد!  

من أشهر أفلام العهد الناصري فيلم "في بيتنا رجل" (1961)، لهنري بركات، عن قصة لإحسان عبد القدوس، بطولة عمر الشريف وزبيدة ثروت وحسن يوسف ورشدي أباظة. يتعرض ثلاثة من أبطال الفيلم للاعتقال والتعذيب لانتزاع اعترافات.  

مشاهد التعذيب والتعليق والضرب بالكرابيج لانتزاع الاعترافات ظهرت أيضاً في فيلم "غروب وشروق" (1970)، لكمال الشيخ، بطولة سعاد حسني ورشدي أباظة. بينما تدور أحداث فيلم "ثمن الحرية" (1963)، للمخرج نور الدمرداش، حول فدائي ينفذ عملية ضد الاحتلال الإنكليزي، ويتمكن من الفرار، لكن الحاكم العسكري الموالي للإنكليز يكتشف تعاون ضابط مصري مع الفدائي فيحقق معه للوصول للفدائي، ثم يعتقل مجموعة مواطنين ويهددهم بالقتل إذا لم يدلِ الضابط بمكان الفدائي. وفي فيلم "أنا حرة" (1953)، لصلاح أبو سيف، من قصة لإحسان عبد القدوس، بطولة لبنى عبد العزيز وشكري سرحان وحسن يوسف، يكافح عباس بالكتابة السياسية مع زملائه لطرد المستعمر فيصبح ضيفاً دائماً على البوليس السياسي، وتحب أمينة عباس ويلقى القبض عليهما بعد اشتراكهما في طبع منشورات سياسية وتوزيعها، حيث يحكم عليهما بالسجن خمس سنوات في العهد الملكي، لكنهما يتزوجان داخل السجن في 20 يوليو/ تموز 1952، أي قبل ساعات من إعلان الضباط الأحرار قيام الثورة!! 

أفلام الكرنكة 
في كتابه "الفيلم السياسي"، يقول الناقد الفني محمود قاسم إنه بمجرد رحيل عبد الناصر ونشر رواية "الكرنك" لنجيب محفوظ، ثم تحويلها لفيلم أخرجه علي بدرخان عام 1975، ظهرت مجموعة من الأفلام التي كشفت بشاعة الاعتقال السياسي والمعتقلات في زمن جمال عبد الناصر. وشكلت هذه الأفلام ظاهرة سميت بأفلام "الكرنكة"، منها "ما وراء الشمس" لمحمد راضي (1977)، و"احنا بتوع الأتوبيس" لحسين كمال (1979)، و"أسياد وعبيد" لعلي رضا (1977)، و"شاهد إثبات" لعلاء محجوب (1986)، وغيرها. أما في فترة حكم حسني مبارك، فقد قلت هذه النوعية من الأفلام بشكل ملحوظ بخاصة الأفلام التي تتحدث عن الماضي، ومن تلك الأفلام "البريء" (1986)، لعاطف الطيب، و"التحويلة" (1996)، لآمالي بهنسي، و"هي فوضى" (2007)، ليوسف شاهين. 
ولم تكن في تلك الأفلام إشارات إلى أن أحداث التعذيب والاعتقال كانت في عصر رئيس سابق. 

المساهمون