بولين كيل والنقد السينمائي: جرأة رأي وتحدّيات

بولين كيل والنقد السينمائي: جرأة رأي وتحدّيات

08 ابريل 2019
غارفر: توثيق سيرة امرأة وتاريخ مهنة (الملف الصحافي للفيلم)
+ الخط -
منذ تطوّر صناعة السينما بدايات القرن الماضي، نشأت تدريجيًا علاقة شائكة تصل إلى حدّ العداء، بين المشتغلين بالنقد والعاملين في الإخراج والإنتاج والتمويل السينمائي، والاستديوهات الكبيرة. استثناءات قليلة كسرت تلك القاعدة. لكن الغالب الأعمّ متمثل بكونها علاقة تنافر، في الشرق والغرب. 

من ينطبق عليهم تعبير "ناقد"، ويحترمون مهنتهم وأخلاقياتها، يعتبرون أنفسهم أصحاب رسالة. يضيئون الطريق أمام المُشاهد، ويُفسّرون غامضًا وملتبسًا، ويُبرزون جماليات خفية، ربما لا ينتبه إليها المُشاهد. لكلماتهم قيمة ومصداقية، حتى لدى المخرج نفسه، إنْ يكن حريصًا على القراءة والمتابعة، إذْ يكشف النقد له مواطن الضعف والقوّة في عمله، أو يخرج بتأويلات لم يكن هو نفسه على دراية بها.

باختصار، للنقّاد ـ أحيانًا كثيرة ـ أيادٍ بيضاء على الصناعة عامة، وعلى المخرج خاصة. فكم من الأسماء لم تكن لتبرز لولا الكتابة النقدية عنها، وتعريف الناس بها وبأعمالها.

تاريخيًا، تلك العلاقة الشائكة قائمة بين النقد من جهة، والأدب والموسيقى والتشكيل وغيرها من جهة أخرى. مع مواكبة النقد فنّ السينما، برزت تفاصيل تلك العلاقة بحدّة غير مسبوقة، مقارنة بغيره من الفنون، وهذا عائدٌ ربما إلى كون السينما تجارة أساسًا، أي إنها مرتبطة بالمال، أرباحًا وخسائر. لذا حصل الصراع. كلمة الناقد ربما "تُدمِّر" رؤوس أموال، وتطيح بعلاقات، وتكشف ضحالة مُمثّل أو مُمثّلة، وادعاء مخرج أو انعدام موهبته. هذا كلّه يؤدّي إلى خسائر مادّية فادحة، بينما الأمر مع الفنون الأخرى لم يكن كذلك، أو بالقدر نفسه، ولن يكون.

بولين كيل إحدى أهمّ النقّاد في تاريخ النقد السينمائي. عنها، حقّق المخرج الأميركي روب غارفر فيلمًا وثائقيًا بعنوان "ما قالته: فنّ بولين كيل"، المعروض في "بانوراما" الدورة الـ69 (7 ـ 17 فبراير/ شباط 2019) لـ"مهرجان برلين السينمائي الدولي". الأفلام التي تتناول نقّاد السينما نادرة للغاية. هناك مثلًا "الحياة ذاتها" (2014) لستيف جيمس، عن حياة الناقد السينمائي الأميركي روجر إيبرت، وهو آخر ما صُنع عن حياة ناقد ومهنته. ولأنّ بولين كيل لا تقلّ أهمية عن روجر إيبرت، بل إنّ البعض يعتبرها أهم وأعمق منه، كان هذا الفيلم المهمّ.

تتجلّى أهميته في نقاطٍ عديدة: تأكيده أنّ الاشتباك غير مقتصر على البلاد العربية، إذْ يحدث في مناطق أخرى أيضًا، أكثر تقدّمًا ووعيًا. لكن الفرق كامنٌ في أن كلّ طرف يحترم الطرف الآخر ويُقدِّره في الغرب. الخلاف فني وفكري وعملي أساسًا، ولا شيء آخر. في أقصى الحالات تطرّفًا، يتبادلان رسائل حادّة، أو يكفّ المُخرج عن قراءة كتابات الناقد، ويتوقّف الناقد عن مُتابعة أعمال المخرج، أو عدم الكتابة عنها. كما يكشف الفيلم، مواربةً، أنّ أزمة النقد السينمائي قديمة. في حياتها المهنية، بدءًا من نهاية خمسينيات القرن الـ20، توقّفت بولين كيل عن الكتابة أكثر من مرة، تارةً بسبب عدم حصولها على راتب، وتارة أخرى بسبب انعدام أمكنة نشر، رغم عملها النقدي في إذاعات مختلفة، وهذا "نقد سماعي" غير مألوف عربيًا. أحيانًا، بسبب جرأتها في التعبير. مثلاً، لها رأي "ناريّ" ضد "صوت الموسيقى" (1965) لروبرت وايز، ما أفقدها وظيفتها أشهرًا عديدة، بسبب ضغط الاستديو. وبدفاعها الشرس عن "التانغو الأخير في باريس" (1972) لبرناردو برتولوتشي، أقامت الدنيا عليها.

إلى ذلك، تعرّضت كتاباتها إلى إعادة صوغ، وحُذفت كلمات منها، وتمّ تبديل رأيها المكتوب فيها، ولم يُسمح بنشر بعضها، ما أدّى إلى تركها مؤسّسات عديدة. أواخر ستينيات القرن الماضي، قالت كيل (هذا موجود في الفيلم) إنّ النقد السينمائي "ليس وسيلة لكسب العيش". الجانب القاسي من حياة النقّاد عميق الجذور، وخصوصًا إنْ يحترم الناقد نفسه وقلمه ومهنته، ويؤمِن فعليًا بما يقوله ويكتبه، بصرف النظر عن تبعات ذلك. في السبعينيات المنصرمة، اضطرت بولين كيل التي عملت 24 عامًا ناقدة في الصحيفة الأميركية "نيويوركر"، إلى مغادرتها 6 أشهر.

كانت حينها مشهورة، فعملت مستشارة فنية لوارن بيتي أثناء تحقيقه أحد أفلامه، مخرجًا وممثلاً. لكن، عندما حادت الأمور عن رؤيتها وتوقّعاتها، انسحبت احترامًا لنفسها، ولفن السينما الذي عشقته. وبفضل منحة "غوغنهايم" الحاصلة عليها عام 1964، ألّفت أول كتاب لها في النقد السينمائي.

يعرض الفيلم مشاكل يُعانيها النقد والنقّاد، مهنيًا وحياتيًا ومعيشيًا. كما يكشف أن الفرق ليس كبيرًا بين الماضي والحاضر، باستثناء كثرة المطبوعات وتنوّعها آنذاك، وقراءة جمهور السينما النقد، والثقة في تقييم النقّاد، ما يُتيح اختيار نوع الأفلام لمشاهدتها، أو يُدرك غموضًا والتباسات فيها، أو يتعرّف إلى أسماء جديدة، فنيًا وإخراجيًا. لذا، ليس مفاجئًا قول كوانتن تارانتينو في الفيلم: "بولين كيل. آه، نشأتُ على قراءة نقدها". ومُقارنةً بالراهن، لا يُشير الفيلم إلى الهوّة الواسعة بين الزمنين، خصوصًا مع طغيان الوسيط الإلكتروني على حساب المطبوعة الورقية، بالإضافة إلى انتفاء شبه كلّي للقراءة، ولأسماء لامعة ذات ثقل.

يبدأ الفيلم ويُختتم بأصوات مراهقين لا يظهرون على الشاشة، وهم يطرحون أسئلة على بولين كيل، قبل عام واحد على رحيلها، تتعلّق بعملها وحياتها: "عن أي فيلم كان مقالك الأول؟" فتُجيبهم: "أضواء المدينة" (1931) لتشارلي شابلن. لم يعجبني، فكتبت ضده". و"كم كتابًا ألّفت؟"، فتقول: "30 كتابًا". بين أسئلة كهذه، يمتدّ الفيلم 90 دقيقة تقريبًا، استعان لها روب غارفر بأرشيف ضخم من لقطات أفلام قديمة وحديثة، وصُوَر فوتوغرافية، ولقطات "فيديو منزلي"، ولقاءات تلفزيونية، وتسجيلات صوتية، ولقاءات حديثة مع نقّاد كديفيد إدليستاين وغرايل ماركوس، ومخرجين كبول شريدر وجون بورمان وتارانتينو.

تدريجيًا، يظهر مدى مساهمة بولين كيل ونقّاد آخرين في تشكيل الرأي العام، وتوجيه جمهور السينما. كان الجميع ينتظرون "ما قالته"، العنوان الثابت لمقالتها النقدية. هي سلّطت الأضواء على سام بيكنباه ومارتن سكورسيزي وستيفن سبيلبيرغ وبراين دي بالما وفرانسيس فورد كوبولا، مُقدِّمةً إياهم كـ"موجة جديدة" في السينما الأميركية، وخاضت معركة نقدية مع زميلها البارز أندرو ساريس، لتبنّيه ودفاعه عن نظرية "سينما المؤلّف" في كتاباته. هي انتقدت نفسها وكتاباتها (كما قالت)، فتخلّت عن أكاديميتها، مُطوِّعةً مفرداتها وجُملها، لتكون أسهل وأبسط كأحاديث الناس.

باستمرار، كانت بولين كيل تتلقّى رسائل من القراء قبل رجال الصناعة. بعضهم يُبدي إعجابه، وكثيرون يعترضون على كتاباتها، أو يشتمونها. في الفيلم، لقطات لرسائل و"تلغرافات" من مخرجين يشكرونها أو يُبدون آراءهم في مقالاتها، كإيليا كازان ولوي مال وجون هيوستن وسبيلبيرغ، الذي كتب لها: "قرأتُ آلاف المقالات، وأنت الناقدة الوحيدة التي فهمت مغزى "القرش" (أنجزه عام 1975)". هناك مديح أو شتائم من جيسيكا لانغ وغريغوري بِكْ ومارلين ديتريش. في لقاء تلفزيوني مع وودي آلن، تمدح موهبته وسخريته وعبقريته وأفلامه، لكنها، عندما رأته يحيد عن "الطريق الصحيحة" (برأيها)، انتقدته بقسوة، كما قال.

لم تخشَ بولين كيل قول كلمة حق في حياتها: "الناس لا تميل عادة إلى حبّ النقّاد الجيدين. عندما يُحبّونك، عليك أن تقلق". لم تتردد في إعلان كراهيتها لـ"2001: أوديسا الفضاء" (1968) لستانلي كوبريك، و"لورانس العرب" (1962) لديفيد لين، و"الليل" (1961) لمايكلأنجلو أنتونيوني، و"الحياة الحلوة" (1960) لفديريكو فيلّيني، و"هيروشيما حبي" (1959) لـ ألان رينيه. تحدّثت عن معركتها الأخيرة قبل تقاعدها، مع "المحرقة" (1985) لكلود لانزمان، بينما أثار دفاعها وإشادتها بـ"التانغو الأخير في باريس"، و"بوني وكلايد" (1967) لآرثر بن هجومًا كبيرًا عليها، فدفعت ثمنًا غاليًا.

تقاعدت بولين كيل عن العمل في "نيويوركر" عام 1991، بعد إصابتها بمرض الشلل الرعاشي، وتوارت عن الأنظار وتوقّفت عن الكتابة في الأعوام العشرة الأخيرة من حياتها، بعد تزايد أمراضها.

المساهمون