خلقت معدلات التضخم المتسارعة في تركيا حالة من عدم اليقين لدى المستهلكين، خاصة مع تذبذب الليرة التي تراجعت بشكل حاد، ما أثار حفيظة المتعاملين بها، ليسلك البعض منهم طريق "الدولرة" وآخرون اكتناز السلع والعقارات، ما أدى إلى زيادة الطلب على التسهيلات الائتمانية بغية تحقيق هذا الهدف، الأمر الذي أثار قلقاً حكومياً من تنامي هذه الظاهرة ودفعها إلى اتخاذ قرارات أخيراً للحد منها.
وأظهرت بيانات صادرة عن هيئة التنظيم والرقابة المصرفية، أن قيمة القروض الاستهلاكية ونفقات بطاقات الائتمان قفزت بنسبة 82.5% من تريليون و143 مليار ليرة (42.5 مليار دولار) إلى تريليونين و87 مليار ليرة (77.6 مليار دولار) خلال الفترة من يونيو/ حزيران 2022 إلى الشهر نفسه من العام الجاري.
وتزامنت القفزة في القروض الاستهلاكية مع صعود حاد لمعدل التضخم الذي وصل إلى أعلى مستوى في 24 عاماً عند 85.51% في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، قبل أن يتباطأ إلى 38.2% في يونيو الماضي، جراء إجراءات حكومية عدة.
وتسبب التضخم في تآكل قيمة الأموال بالعملة الوطنية، التي هوت بدورها منذ منتصف العام الماضي بنحو 44%، لتلامس حالياً مستوى 27 ليرة للدولار مقابل نحو 18 ليرة للدولار في يونيو 2022.
دفعت تلك المعطيات إلى زيادة السلوك الاستهلاكي لدى الأفراد فضلاً عن خلق طلب غير حقيقي على بعض المنتجات، إذ ترسخ لدى المستهلك أفضلية شراء السلع التي يحتاجها الآن من خلال الاقتراض، واكتنازها، بدلاً من شرائها بعد أشهر بسعر أعلى من الحالي في ظل الزيادات المتسارعة في الأسعار، وفق خبراء اقتصاد.
ففي قطاع السيارات تسارعت الأسعار بشكل جنوني بخاصة المستعملة التي تحولت إلى سوق للمضاربين، إذ ذهب البعض للشراء وهو في غير حاجة إلا للاستفادة من الزيادة المبالغ فيها في أسعار المركبات. وزادت قروض السيارات من 21 مليار ليرة (نحو 780 مليون دولار) في يونيو من العام الماضي، إلى 80 مليار ليرة (2.9 مليار دولار) مع نهاية يونيو الماضي، وفق بيانات هيئة التنظيم والرقابة المصرفية الصادرة حديثاً. كما زادت قروض الإسكان بنسبة 29.6% من 334 مليار ليرة (12.4 مليار دولار) إلى 434 مليار ليرة (16.1 مليار دولار) في الفترة من يونيو 2022 إلى يونيو 2023.
قال أسامة الشريف، وهو صاحب إحدى شركات المقاولات في إسطنبول، لـ"العربي الجديد"، إن تقديم التسهيلات الائتمانية للمقترضين خلال الفترة الماضية فتح شهية الراغبين في امتلاك العقارات خاصة من الطبقة الوسطى.
وأضاف الشريف أن أحد أهم الدوافع للاتجاه نحو تملك العقار هو ارتفاع أسعار العقارات بشكل جنوني، إذ أصبحت قيمة العقار ترتفع بمستوى غير مسبوق رغم تراجع مستويات الشراء خلال العام الجاري عن العام الماضي.
وأشار إلى أن مالك العقار بعد شرائه وحدته السكنية ببضعة أشهر يفاجأ بأن قيمة العقار ارتفعت سواء بالليرة أو بالدولار، وذلك نتيجة ارتفاع أسعار مستلزمات البناء.
وتراجع عدد الوحدات السكنية المباعة في تركيا خلال الستة أشهر الأولى من العام الجاري بنسبة 22.1% على أساس سنوي بواقع 565 ألفا و779 وحدة مباعة، مقابل 726 ألفا و398 وحدة مباعة في الفترة نفسها من العام الماضي، وفق البيانات الرسمية.
قال أستاذ المالية في جامعة باشاك شهير في إسطنبول، فراس شعبو، لـ"العربي الجديد" إن زيادة القروض خلال الفترة الماضية أمر طبيعي، نظراً لانخفاض الفائدة بنسبة كبيرة جداً عند 8.5% قبل أن تصعد منذ يونيو الماضي "فكان الاتجاه نحو الاقتراض الاستهلاكي أو بطاقات الائتمان كون البنوك رفعت سقف الائتماني بشكل كبير لكل مواطن وفق قدرته الائتمانية".
وأرجع شعبو ارتفاع حجم الاقتراض من قبل البنوك إلى توافر الأموال في خزائنها فضلا عن ارتفاع الأسعار بشكل كبير، إذ أصبحت السقوف الائتمانية السابقة غير كافية لسد احتياجات المواطنين، ما أدى إلى اعتماد الأتراك على تلك القروض لتأمين النفقات المعيشية لهم وسط تآكل دخلهم.
وزادت نفقات بطاقات الائتمان للأفراد بنسبة 172% في الفترة من يونيو 2022 إلى الشهر نفسه من العام الجاري من 265 مليار ليرة (9.8 مليارات دولار) إلى 721 مليار ليرة (26.8 مليار دولار)، وفق بيانات هيئة التنظيم والرقابة المصرفية.
وأشار شعبو إلى أن هذا الاستهلاك محفز للاقتصاد والنمو ويسهم في زيادة معدلات التشغيل، لكن المشكلة تكمن في قدرة الأفراد على السداد لأن هذه الأموال يجب أن ترد، ومع استمرار الأسعار في الارتفاع وزيادة معدل الفائدة يصبح الأمر مرهقاً جداً للمقترضين".
وفي مطلع يونيو الماضي بدأ البنك المركزي التركي الابتعاد عن سياساته التيسيرية التي استمرت لعامين، لينتقل إلى سياسات نقدية أكثر تشدداً من خلال رفع معدل الفائدة.
وفي يونيو الماضي، رفع البنك المركزي سعر الفائدة بمقدار 650 نقطة أساس، إلى 15%، قبل أن يزيدها مجدداً الشهر الجاري إلى 17.5% بهدف مواجهة التضخم المرتفع.
ووسط المخاوف الحكومية من تنامي ظاهرة الاقتراض بغية شراء السلع والمضاربة فيها، فرض البنك المركزي، أول من أمس الثلاثاء، مجموعة قواعد جديدة للحد من الاستدانة باستخدام بطاقات الائتمان وجعلها أكثر كلفة، مع تقييد الإقراض في بعض القطاعات مثل شراء السيارات.