لِثام الكورونا

20 مايو 2020
غرافيتي لبانكسي في بريستول الإنكليزية
+ الخط -

أثبت انتشارُ الشبكة العنكبوتية - ورواجُ استعمالِها، والإقبالُ الهائل على مواقع التواصل الاجتماعي - أنّه في عصر الإنترنت أضحى "العالَمُ قريةً صغيرة"، وأنَّ نقرة خفيفة كفيلةٌ بأنْ تُحوِّل زَمنَ المُتَصفِّح لِما تعرضه عليه شاشةُ الحاسوب، إلى زمن يستغرق الأزمنة جميعَها، ماضيَها وحاضرَها ومُستقبَلها.

ومما لا شك فيه أنّ هذا الانعطاف الرَّقميّ، في تاريخ البشرية، يسَّر التواصُل المُتواصِل ليس بين دُوَل العالم ومنظَّماته ومؤسَّساته فحسب، بل أتاح عقد صِلات وطيدة بين سُكانه أفراداً وجمعيات وغيرها أيضاً، لكي يتعاون الناس فيما بينهم، وليتعارفوا، وليتبادلوا الخبرات والخيرات، دون أن نغفل إمكانَ استعمال هذا الابتكار في أمور لاأخلاقية وحتى في عمليات إجرامية.

والأكيد أنْ لا أحد كان يتصوَّر أنَّ هذه الشبكة، بمواقعها المختلفة من حكومية وإعلامية وعلمية وسواها، ستُقبل على الإنترنت إقبالاً كثيفاً، شأن الذي تَعرفُه هذه السنة، إثر انتشار وباء فيروس كورونا واجتياحه العالَم قاطبة، وما اتسم به من تهديد لوجود الإنسان، دون تمييز بين الغني والفقير، أو بين الدول المتقدِّمة والمتأخَّرة.

ولا غرو أنْ لا لحظة تاريخية عرفت إقبالاً على الترجمة كالتي يعيشها العالَم حالياً مع جائحة كورونا. فإذا كان السيميائي الإيطالي أومبرتو إيكو قد قال في استجواب صِحافي، ذات مرَّة: "إن الترجمة هي لغة أوروبا"؛ أي الاتحاد الأوروبي، فلا غضاضة في أن نذهب إلى أن هذه الترجمة قد تحوَّلتْ في زمن الكورونا إلى "لغة العالَم".

وجليٌّ أن ما يُتداوَل الآن من بحوث علمية، ومواد إعلامية، وأخبار، وتوجيهات، وحصص دراسة في مختلف أسلاك التعليم وغيرها، كلُّ ذلك يُعرَض في شاشات الحواسيب بمنصاتها الرقمية، التي أصبحتْ تحوي التلفزيونات والقنوات وحتى السينما، مثل نتفليكس. وواضح أنَّ هذا الكم الهائل من البرامج والمواد يُقدَّم مُترجَمًا، لأنه يُنتَج في شتى أصقاع الأرض، أو يُستَقى منها، بمعنى أنّه يَصْدر بلغته الأصلية، ثم يُنقل إلى باقي اللغات.

لقد أَوْقعت الحوادث المتسارعة والمرتبطة بجائحة كورونا النَّقَلة أو المترجِمين في ارتباك كبير، بفعل ضغط الزمن عليهم وكثرة المواد، وهو ما لَم يُعْفِهم، في عالَمنا العربي، من ملاحقة بعض اللغويين، واستدراكاتِ حُرّاس اللسان المبين عليهم، الذين سهوا عن الحال التي يتخبط فيها الناس، فأبوا إلا أن يُقوِّموا اللسان.

لقد رأى بعضُهم أنّ الأَوْلى أن يُترجَم "فيروس كورونا" بـ"فيروس التاج"، وربطوا ذلك بالشكل الذي يظهر عليه الفيروس في المختبرات، واحتراماً لمعناه في اللغات اللاتينية. لكنّ ما تحاشاه هؤلاء هو أن يقترحوا ترجمة مُقابلة لكلمة "فيروس"، وأنهم تغافلوا عن أن الترجمة جاءتْ لتُيسِّر التواصل، وأن إضافة كلمة "التاج" ستُصعِّب الأمر على المتلقي العربي، بل إنهم سهوا عن كثير من الدَّخيل المتداوَل في لغتنا، الذي خلقنا ألفة معه، وتَجِدُنا نستعمله، وهو ما تسمح به لغتنا السمحة، بل إنّ الأهمَّ هو أن سلطةَ التداول إعلامياً فرضت "فيروس الكورونا"، فيُصبح عملهم شبيهاً بجهد من يرْقم على الماء.

وأُثير بصدد ترجمة mask أو masque، أي قطعة الثوب الصحيةِ الواقية من "فيروس كورونا"، نقاشٌ لا يخلو من حدَّة. هكذا ارتأى بعضُهم استعمال "القناع"، واعْتُرِض عليهم، لأن القناعَ يُغطي الرأس بكامله، وفضّل آخرون "الكِمامة"، التي رفضَها كثيرون، لأن الكِمامَة توضَع "للبعير الذي يُكَمُّ به فَمُه لئلّا يعضّ"، بينما نادى آخرون باستعمال "اللثام"، لكونه لا يزال يُستعمل إلى يومنا هذا، وهو يَصْلح للرجال والنساء معاً، وقد احتجوا بقول المتنبي، في بيته الثاني من قصيدته في وصف الحُمّى: "ذَراني والفلاةَ بلا دَليل/ ووجهي والهجيرَ بلا لِثام". بل إنهم أضافوا ما يبرِّر ذلك تاريخيا، محتَجِّين بابن عبدين التجيبي الأندلسي (القرن السادس هجري) في مراقبة المحتسب للطحانين والخبازين: "... ولا يعجن أحدهم إلا وهو مُلثَّم لئلا يتطاير من فمه شيء إذا عطس أو تكلَّم، وأنْ يشدّ على جبينه عصابة بيضاء، كي لا يتعرق فيقطر منه فوق العجين".

هكذا، يتبيَّن أنّ اللثام استُعمِل صحِّياً في القديم، ليس لحماية الوجه من لفح الشمس، ومن الرمال المتطايرة في الصحراء، وإنما وُظِّف للوقاية الصحية أيضاً، وهو ما يُدعى إلى التزامه اليومَ اتِّقاءً للعدوى.

المساهمون