نداء الترجمة

26 فبراير 2018
أرمين فاهرَميان/ أرمينيا
+ الخط -

بعد انتصار عوليس في حرب طروادة، قفل عائداً إلى زوجته بِنِلُوب وابنه تيلماك اللذين تركهما في إيتاكا، واتقاءً منه لغواية نداء الحوريات، أغلق سمع بحّارته، وقبل ذلك كان قد أمرهم بتقييده إلى صارية السفينة، وألا يفكوا قيده مهما كان، لئلّا ينحرفوا عن خطّ إبحارهم بتأثير من سحر ندائهن، فيرتطموا بالصخور ويغرقوا. فعلاً، قاوم عوليس النداء، وبلغ وجهته بعد رحلة محفوفة بالمغامرات، دامت عقداً.

لم يقتصر النداء على الحوريات، فالأرض أيضاً نادت عوليس، ونداؤها يحضر في الرحلات، سواء للاتجاه إلى بلاد غريبة أو إلى الموطن الأصلي، بعد أن يكون الرّحالة قد أمضى زمناً خارج أرضه، إثر استيقاظ الحنين فيه. وعادةً ما تستنفر أحداث الرحلة الكتابة وتحرّض عليها.

وجليّ أن الكتابة تشترك مع الرحلة بصفتها أدباً استجابةً لنداء، وأنها تكابد بدورها الحنين، لكن حنينها مختلف، يطبعه العيش على الارتحال والهروب طلباً للجدّة، وفق ما يرى جيل دولوز، لأن "كل شيء في هذا الأدب انطلاقة وصيرورة ومرور وقفز وقوة خارقة وعلاقة مع الخارج". ولعلّ التحقّق الأفضل لذلك الهروب يكمن في تجربة الترجمة، التي يمثّلها مفهوم "المغادرة الموطنية" Déterritorilisation.

تستجيب الترجمة لنداء الرّحلة والكتابة معاً؛ فكلتاهما ترى أن "وقوف الماء يُفسِده"، وتَتبنّى الترجمة ذلك، فتُراهن على الارتباط بالخارج بإنشاء علاقات متنوعة معه، وترى في سفرها بالنص تجديداً له، وضماناً لاستمرارية الأصل في الحياة عبر مواصلته التحوّل، فتقبل بالمرور به إلى عوالم جديدة وترضى بالمُضيّ به إلى أرض جديدة، في مهمة ليست باليسيرة، يسكنها اجتراح حياة أخرى للنص في أرض وثقافة أُخرَيين، من أجل الحلول فالارتحال مجدَّداً.

إن ما يصعبُ على الكُتّاب إخفاؤه هو طموحُهم إلى أن يروا أعمالهم مترجمة، لذلك ينادي المؤلف على مترجمه الأثير دوماً، ولنتذكّر مثلاً الروائيّ غ. غ. ماركيز، الذي أصرّ على أن ينقل له "مائة سنة من العزلة" إلى الإنكليزية المترجِم غ. راباسا ولقد عبّر و. بنجامين عن ذلك مجازاً باحتمال عثور العمل الأدبي بين قرائه على المترجم الملائم، بمعنى أن المؤلف ينادي على المترجِم لحظة إبداعه أو انتهائه من عمله، وأنه يهيّئ عمله الأدبي ليرضى بأن يُترجَم ويُلحّ في ذلك باللعب على الشكل والمضامين.

ويعترف المترجمون، وهم كتّاب أيضاً، بأن كل فعل قراءة يحرّكه نداءٌ يحرّض على الترجمة. لذلك يتعمّدون الهروب بالنص الأصل إلى أرض أخرى عبر حركة مغادرةٍ تحنّ إلى الآتي، ولا تنفكّ تستشرف المستقبل والحياة، ولا حنين لديها إلى الماضي، إنه الهروب الذي يعي بأن فيه "إنتاجَ واقعٍ، وإبداع الحياة، وإيجاد سلاح"، وهو ما نعته دولوز بـ"المغادرة الموطنية"، على اعتبار أن "الغاية الوحيدة للكتابة عبر التأليف التي تنسجها هي الحياة. إن مراد الترجمة هو اللحظة السعيدة، تلك التي تحدث إثر تلقيها لنداء الأصل، وتكرارها إياه في لغات أخرى.

ومن الطرائف في باب نداء الكتاب على مترجِمه ما حكته مارِيّا خوصي فورِيُّو، المترجمةُ الإسبانية عن الإيطالية، من أنها كانت بمكتبة في إيطاليا، فاسترعى انتباهها كتابٌ في المعمار، حديث الصدور، يتضمّن صُوَراً، وأنها قرأت فصلاً منه عن بيروت عنوانه "بَشَرة المدينة"، فراسلت دار نشر مرموقة بمدريد فوراً مُعرّفةً به، دون أن تعرض نفسها مترجِمةً. وأنها ليلاً، عند فتحِها لبريدها الإلكتروني ببيتها، فوجئت بمسؤول دار النشر يُخبرُها بأنه كان سيتّصل بها من قبل ليعرض عليها ترجمة الكتاب نفسه.

أما من طرائف مناداة الكاتب على المترجم ما حكته نوال السعداوي، في "أوراق حياتي"، عن نجاح رواياتها مترجَمةً إلى الإنكليزية من قِبل زوجها شريف حتاتة؛ فقد غدا هاتفهما يرنّ كثيراً، والأدباء يتوافدون عليهما فجأة.

لقد "جاء عبد الرحمن الشرقاوي يحمل عدداً من كتبه، أهداها لي ولشريف، وبعد أن انتهت الزيارة، قال لشريف وهو يودّعه على الباب: عندك كارت بلانش إذا شفت إن كتاب من كتبي ممكن ترجمته ونشره فى لندن! وقال شريف بهدوء: أنا روائي ولست مترجماً يا عبد الرحمن. كانت الزيارة الأولى والأخيرة لعبد الرحمن الشرقاوي. قرأنا نعْيَه في جريدة الأهرام بعد شهور قليلة. وكان يوسف إدريس يضحك مع شريف، يداعبه ويقول، يعني إشمعنى نوال يا أخي اللي إنت نازل ترجمة لرواياتها، ما ترجملي رواية أو مجموعة قصص يا شريف! ويضحك شريف معه ويقول: لازم تعملي شوية إغراءات يا يوسف، ثم إنت عندك الحكومة كلها ومؤسساتها والمترجمين بتوعها".

المساهمون