روزماري بوتشر: "عيّنات" من زمن مقيَّد

روزماري بوتشر: "عيّنات" من زمن مقيَّد

21 سبتمبر 2014
+ الخط -

قاعة واسعة، لا تشغل فراغها إلا أجساد أربع راقصات واقفات أمام أربعة حبال طويلة. الجمهور الحاضر إلى هذه القاعة في متحف "كونستباو" في موينخ، مدعوّ إلى التجمّع حول الراقصات من ثلاثة أطراف، بغية مشاهدة "عيّنات"، العرض الراقص الأخير للمخرجة البريطانية روزماري بوتشر.

يصعب إحصاء الأعمال الراقصة والمسرحية التي صممتها وأخرجتها بوتشر في العقود الأربعة الأخيرة. الفنانة التي وصفها نقاد بـ"أيقونة الرقص البريطاني الجديد"، جالت بمشاريعها مدناً عديدة وكانت مواظبة على تقديم عروضها في المتاحف والمعارض، مازجة الرقص بالفنون الأخرى. وبعد هذا الباع في الرقص المسرحي، تقدم بوتشر، التي بلغ عمرها السبعين عاماً تقريباً، عرضاً يعتمد على التجريد والحركة المتناهية بالبساطة. تلك هي بصمتها التي كانت، وما زالت، تعتمد النزعة التبسيطية أو التقليلية في الفن.

في "عيّنات"، لا يعكّر فراغ القاعة سوى بعض الأعمدة التي تتوسطها، والحبال المرمية أمام الراقصات. لا تضيف الأعمدة الضخمة في منتصف القاعة، وحركة الراقصات المكررة، إلا المزيد من الفراغ والسكون. ولا يترك الفراغ في القاعة أي مجال لتوقّع ما الذي يمكن أن تقدّمه مصممة الرقص.

لكل راقصة مسار يشبه مسارات القطارات، لكنه مسار وهمي تحدده حركة الراقصات فقط. تسير كل راقصة بخطوط مستقيمة ذهاباً وإياباً، من دون أن تعير انتباهاً للمكان وللجمهور الملتف حولها، ودون أي احتكاك مع زميلاتها. تحمل حبلها الطويل، والثقيل، وتحاول أن تصنع كينونةً ما، بينها وبين حبلها.

يأتي عرض "عيّنات" في سياق سلسلة عروض وندوات تستعيد خلاصات "مسرح جادسون الراقص"، وهي مجموعة مسرحية ظهرت في نيويورك في الستينيات، واعتمدت على التبسيط والاستعانة بتفاصيل الحياة اليومية بعيداً عن قواعد الرقص الصارمة. في عام 1965 كتبت إيفون راينر، وهي عضو في المسرح الراقص، مانيفستو "لا"، الذي دعت فيها إلى التحرر من المشهدية، والاستعراض، والإيهام. كان الهم، وما يزال، بالنسبة إلى أعضاء "جادسون"، الاختزال، واستقاء الحركة من الحياة اليومية.

لكن، رغم بساطة الأفعال والحركات التي تشكل "عيّنات"، إلا أن الراقصات لا يصلن إلى أي انسجام مع الحبال، لتكون النتيجة هي السكون والخواء. تستطيع بوتشر، رغم الإصرار على النفي، والتخلي عن كل شيء، أن تخلق أمزجة حادة ومليئة بالتوتر ضمن بحثها في أبسط أشكال الحركة، كالمشي والاستلقاء والزحف. تقوم الراقصات الأربع بتكرار حركاتهن مع الحبال الثقيلة، وتسعى كل منهن إلى تطويع جسدها مع الحبال، لكن تبقى احتمالات التأقلم مع ثقل الحبال محدودة.

تحاول الراقصة الأولى أن تكيف جسدها مع شكل الحبل، بينما تقوم الثانية برمي الحبل أمامها وتمرّن جسدها ليتخذ الوضعية الملائمة عندما تحمل الحبل. تحاول الراقصة الثالثة أن تجعل من نفسها حبلاً يتصل ببقية الحبال. وتبقى الراقصة الرابعة عاجزة عن ابتكار ما يلفت النظر، لا لشيء، إلا لأنها لا تستطيع أن تتكيف مع ثقل الحبال من حولها.

قد يجد الباحث عن معنى ما للحبال الطويلة والسميكة ضالته في مفهوم الزمن. الزمن ممتد كما هي مسارات الراقصات، ودائري كما هي حركتهن ذهاباً وإياباً، ومتشابك ومعقد كما هي الحبال؛ يتجلى كمفهوم مركب في "عيّنات" وتبدو كل راقصة مشغولة به.

ما من شيء يحدث في هذا العرض. وأمام رتابة الحركة وبساطتها سيجد المُشاهد مساحته الخاصة للشرود والتأمل في زمنه. وكما تقوم الراقصات، وبطريقة حسية، بتحديد الخطوط الفاصلة بينهن، تدعو بوتشر الحاضرين، وبطريقة حسية أيضاً، إلى المشاهدة والعودة إلى الذات. هي مغامرة، دون أدنى شك، وقد يقع العديد منهم بمطب الشرود، لكن ما الذي يمنع مُشاهد ما من أن يعود إلى ذاته في عرض يكرر أمزجته وأساليبه؟

المساهمون