حسين كمال.. السينما من الفن إلى الدعاية

حسين كمال.. السينما من الفن إلى الدعاية

17 اغسطس 2014
شكري سرحان في "البوسطجي"، 1968
+ الخط -
سعى المخرج المصري حسين كمال (1934-2003) إلى تقديم سينما جادة ومختلفة، إلا أن النجاح لم يكن دائماً حليف محاولاته. رغم دراسته في معهد السينما في باريس، خمسينيات القرن الماضي، واطلاعه هناك على آخر إنتاجات وتقنيات ومدارس الفن السابع في ذلك الوقت؛ إلا أن كمال لم يقدم، مع عودته إلى مصر، إلا أفلاماً تقليدية الشكل والمضمون في غالبيتها.
الرجل الذي تمرّ اليوم الذكرى الثمانون لولادته، ما زالت مسيرته تثير علامات استفهام، حالها كحال غالبية التجارب المصرية السينمائية التي لم تستطع تجاوز عتبة التجاري والدعائي إلا في حالات محدودة، فيما يشبه معضلة تشمل حال الفن السابع في غير بلد عربي أيضاً.

"ثلاثية حسين كامل"، وهي الأعمال الثلاثة الأولى في مشواره، "المستحيل" (1965) و"البوسطجي" (1968) و"شيء من الخوف" (1969)، مثال مناسب على ذلك، رغم ما بدا فيها من محاولة للتغريد خارج السرب في ذلك الوقت.

يحسب لكمال في هذه الأشرطة محاولته كسر نمطية المضمون وتلافي استسهال التنفيذ الفني. وهاتان سمتان تجمعان الأفلام الثلاثة المختلفة في مضمونها. ففي "المستحيل"، تناول المخرج قضية عذاب الفرد في المجتمع الحداثيّ، وسط لمسات وجوديّة تذكّر بشكل أو بآخر بأفلام السويدي إنغمار بيرغمان ("توت بري، "الختم السابع")، مع توظيف مكثّف لفكرة الظّلال وديكوتوميّة الأبيض والأسود. وقد تكون ذروة هذا الشريط في مشهد الكابوس لبطلته نادية لطفي بعد محاولة فاشلة للانتحار، يلاحقها فيه قمع المجتمع متمثّلاً باغتصاب الزوج إياها وصرامة والدتها المتسّلطة.

وقد صاحبت تلك المشاهد موسيقى تصويرية لافتة، من تأليف الموسيقار محمد عبد الوهاب وتوزيع الإيطالي الأصل أندريه رايدر، اختلط فيها الجو الجنائزيّ بإيقاع موسيقى الأفراح، في انسجام تام للتضّاد البصري والسمعي.

 ومن بين ما يميز كمال، في هذه الأفلام الثلاثة، تناوله الريف المصري بطريقتين مختلفتين مضموناً وتعبيراً. ففي فيلم "البوسطجي"، المأخوذة أحداثه من قصة للكاتب يحيى حقي، ترتكز حكاية الشريط على محورين: يتطرق الأول إلى العلاقة بين مركزية القاهرة وهامشيّة الصّعيد، في عرض لترهّل الجهاز البيروقراطي ونشوء الهويات المحليّة الرافضة لـ"الآخر"، من خلال قصة ساعي بريد قاهريّ يصل الى الريف محاولاً التأقلم مع القرية الصعيدية.

أما المحور الثاني، فيتناول العلاقة العاطفية بين شاب وفتاة في القرية، يقعان في محظور المجتمع ويكون البوسطجي شاهد عيان على تبادلهما الرسائل، ويؤدي إخفاقه في إيصال رسالة بين العاشقين إلى قتل الفتاة على يد أبيها، في مشهد نهاية مأساويّ فيه الكثير من السّمات المسرحية، يمشي فيه الأب حاملاً ابنته القتيلة أمام جموع أهالي القرية، بما فيهم ساعي البريد الذي أدرك أنه شريك في الجريمة، ونواح الأم الثكلى على مسمع الجميع.

وظّف المخرج في هذا الشريط إمكانياته كمخرج يكمل مسيرة الواقعية الجديدة في السينما المصرية بعد مخرجين كصلاح أبو سيف ويوسف شاهين، وجعل من الرّيف البسيط غير المبهر بصريّاً، موقعاً قادراً على احتواء الحبكة الدرامية بكثير من السلاسة والعمق.

وفي فيلم "شيء من الخوف"، حوّل حسين كمال قصة الكاتب ثروت أباظة إلى ما هو أشبه بملحمة سينمائيّة، منح فيها الريف ما هو أبعد من الهامشيّ ووسمه بمجاز سياسيّ لبلد ثائر أحرقه الديكتاتور. وقصد المخرج، بدراية تامّة، رسم المشاهد والاعتناء بأزياء وملامح الشخصيات الخارجية بكثير من التدقيق، ما جعلها أيقونة استلهمت مجدّداً في الحراك الثوري الأخير في مصر.

إضافة إلى ذلك، اشتغل كمال على تكثيف الموسيقى التصويرية التي وضعها له الموسيقيّ بليغ حمدي، تاركاً في الشريط بصمات موسيقية لا تنسى بصوت الفنانة شادية، وأبرزها تحرك الجماهير الغفيرة في الريف على وقع غناء جماعي يهتف ببطلان زواج عتريس زعيم القرية من الفتاة الثائرة فؤاده، في إسقاط رأى فيه كثيرون نقداً لجمال عبد الناصر بعد عامين على النكسة.

إلا أن انتقاد صاحب "نحن لا نزرع الشوك" للفترة الناصرية لم يبد جلياً إلا في عهد السادات بطبيعة الحال، من خلال شريطين، أوّلهما "ثرثرة فوق النيل" (1972)، المأخوذ عن قصة نجيب محفوظ، والذي يعتبر من أبرز أفلام النقد الاجتماعي والسياسي في تلك المرحلة. ويهزأ الفيلم بنخبة المثقفين المصريين في فترة ما بعد النكسة وقبل حرب أوكتوبر، مصوّراً إياهم أشخاصاً مغيّبين بفعل الحشيش، كإفراز لمجتمع نظام ثورة يوليو.

تعبيريّاً، حلّق كمال بلغته السينمائية في مشاهد عديدة في هذا الفيلم، كالحوار الداخلي في الشارع لشخصية أنيس (عماد حمدي)، أو مشهد دهس الفلاحة على يد المثقفين، أو مشهد النخبة "المسطولة" المتّكأةّ على تمثال فرعوني. ويعدّ الشريط من التجارب النادرة عربياً، إن لم يكن الوحيد، الذي صوّر بالكامل بالأبيض والأسود، سوى مقطع واحد ملوّن في وسط الفيلم، أراد من خلاله أن يسخر من السينما الملونة التجارية والتي كان قد بدأ، هو نفسه، طريقه ليكون من أهم أسمائها في تلك القترة من خلال الفيلم الغنائي الملوّن الشهير "أبي فوق الشجرة" (1969).

أما الشريط الثاني الذي وجه فيه كمال سهامه إلى الناصرية، فكان "إحنا بتوع الأوتوبيس" (1978) الذي بدا فيلما دعائيّاً بامتياز، حاول أن يهشّم الإرث الناصري وأن يكرّس سرديّة النّكسة في ظلّ واقع ساداتيّ مشتعل في تلك الفترة. ذلك عدا عن التنفيذ السينمائي المبتذل، الذي مثل صدمة لدى المشاهد في انتقاله الحاد من الكوميديا الى التراجيديا، محدثاً إحباطاً وكرهاً لكلّ ما هو ناصريّ.

حاول كمال تقديم سينما اجتماعية، وخطا شوطاً على مستوى طرح الخطاب الديمقراطي ذي اللمسة النّسوية في شريطه الشهير "إمبراطورية ميم" (1972) الذي يتطرق لمفاهيم الحريّة داخل عائلة برجوازية ربّتها أرملة جميلة (فاتن حمامة)؛ لكنه سرعان ما تراجع عن كسر أي من التقاليد في نهاية الشريط: لن تفرز الانتخابات الداخلية في العائلة مبنى هرميّاً جديداً، ولن تُقدم البطلة الأرملة على زواج مَن تحبّ.

رغم تعاملاته فيما بعد مع أدباء معروفين، وأهمهم إحسان عبد القدّوس، في أعمال جماهيرية من قبيل "دمي ودموعي وابتسامتي" (1973)، "العذراء والشعر الأبيض" (1983)، و"أرجوك أعطني هذا الدواء" (1984)؛ إلا أن حسين كمال لم يستطع تقديم ما هو مختلف عن السائد في اللغة التعبيرية ولم ينجح بالارتقاء إلى مستوى أفلامه السابقة، وبقي مخرجاً للأفلام الناجحة جماهيرياً في عقدي السبعينات والثمانينات.

وفيما يبدو نضوباً لطاقاته الإخراجية السينمائية، أمضي السنوات العشر الأخيرة من حياته دون إنتاج. وكان شريط "ديك البرابر" (1992) الإمضاء الأخير للرجل في عالم السينما.

حسين كمال مخرج أجاد السينما الجادة في العهد الناصري، وقدم سينما دعائية في عهد السادات، وارتكز على السينما التجارية في عهد مبارك: مسيرة مخرج تقول الكثير عن حال مصر منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم.

المساهمون