شعر عفيفي مطر: قطار إلى الطفولة

شعر عفيفي مطر: قطار إلى الطفولة

28 يونيو 2014
لقطة من فيلم "رباعية الفرح"
+ الخط -

كثيرون هم الشعراء الذين لا ينتمي شعرهم إلى طفولتهم، نجدهم ينطلقون في سيرهم الذاتية من تلك اللحظة التي صفقوا بها باب العائلة وراءهم، ومضوا في طريق المغامرة. فهُم بحاجة إلى مفارقة لم تتحْها لهم طفولتهم، كما لم تترك لهم ندوباً صغيرةً على ركبهم لتعود بهم إلى حكاية ما؛ طفولة غارقة في الفراء والسكينة، وديعة بلا مخالب، وبلا أهازيج أم، وصلوات أب، وأقاصيص جدة.

أما الشاعر المصري محمد عفيفي مطر (1935- 2010) فلم يكن من هؤلاء، ولا ممن كانت طفولتهم مجرد استرجاع أو أثاث خيال، بل كان من أولئك الذين يضعون طفولتهم محل مستقبلهم لتظلّ كل قطارات العمر توصل إلى محطة واحدة هي الطفولة، حيث نراها داخل شعره وخارجه فهو يقول: "أمي كانت تدفن أخوتي الموتى في شقوق جدار البيت لتدرأ الموت عنه، وكانت تحييهم بحكاياتها فأراهم ليلا على شكل قطط تموء".

هكذا يكون الشعر رديف طفولة، لا يختارُ غير الأرواحِ الهشّة لتكتبه وتكونه، تتورّط فيه ويتورطُ فيها، عبر علاقة ملتبسةٍ لا تحسن معها هذه الأرواح أن تتحررَ أو تفرض قطيعة، فالشعر هو مسقط أجسادها، والقصيدة هي تلك الجدران التي جعلت من صرخة ولادتها ذاكرة ودروب مستقبلٍ مليء بالمرايا التي تعكس ما يكتظ خلفها. وكي تأمن الأمام عليها بالنظر الدائمِ إلى الخلف، وهنا لا ضرورة للبوصلة.

من قصيدة "الخفافيش أبدا": "فتحت عيني فيِ ذبول الشمس وهي تجر في أظلافها رملاً تذريه على شفق الغروب/ والظل يزحف صاعداً فوق الحوائط/ ناسجاً دغْش الزوال سقيفةً تدنو قتامتها رواقاً لانفلات الصبْية اللاهين والمتنظرين أمام باب الليل أن تنقض/ أسراب من الفحم المجنح: خفة، وذكاءُ تحويمي، ومكرُ مناوراتي، وانقضاض ليس يوقفه اصْطدام بالحصى أو بالعصا أو بالحوائط والسقوف".

محمد عفيفي مطر، شاعر أتت أهميته من رؤيته الخاصة للشعر، فقد التفَتَ في وقت مفصلي إلى تجربته الشخصية واستمع إلى صوته الداخلي الذي يربطه بالحس الإنساني وأسئلته البسيطة في مرحلة اصطخبت بالشعارات السياسية ويافطات القضايا الكبرى، فغاص في دهاليز اللغة العصية، مقارنة بلغة مجايليه آنذاك، فحقق اختلافاً رُفض في بادئ الأمر، إلا أنه شكّل مدرسة ظهر أثرها في ما أنتجته الأجيال الشعرية التي تلته.

انشغل صاحب "رباعية الفرح" بإعمال الذهن في نسج جملته الشعرية، فجاءت محملة بكم هائل من المعرفة التي نهل منها بما يوسع من فضاء قصيدته، لتطلع على العالم المقابل لها. فهو يدرك مدى الاستحواذ الذي تمارسه عليه بيئته القروية وعشقه لتفاصيل الحياة الصعبة هناك، ويدرك تصالحه مع هذا الاستحواذ، فاستثمر كل ذلك بذكاء نجح في خلق معادلة صعبة دون أن تضطره إلى فرض قطيعة مع أحد الطرفين.

لكن صاحب "دفتر الصمت"، و"كتاب الأرض والدم" كان على قطيعة أو على موقف واضح من السلطة، وممن يقف في مواجهتها، فقد اختار لنفسه أن يظل حرّاً، واختار لقصيدته ألا تدجّن في أقفاص تلك السلطة، ولو كانت قضبانها من الذهب، أو كانت أبواقها تصدح بأسماء مساجينها، وهذا ما دفع بشعراء أقل أهمية وأقل قيمة منه لأن يختطفوا الظهور واهتمام النقد والإعلام.

من قصيدة "مراودة الهدهد": "من خفة التحليق حول العرش والتيجان والأمم السوالف/ ليس إلا الدود ينغل في بقايا الهالكين!/ راودْته عن عِلم ما يدريه/ شاغلني بخفّته وطيش النقر ما بين الشقوق/ نقر التلفّت نافشاً زهو التشكك واحتمالات اليقين".

ظل محمد عفيفي مطر حتى قصائده الأخيرة، مشغولاً بالتجريب والتجديد، أسير مختبر قصيدته الذي لم يغادره منذ اللحظة التي أدرك فيها أن لا مكان له في هذا العالم خارج القصيدة، فاعتزل الناس لكنه لم يعتزل الحياة، بل ظلّ يستمد منها الأمل والإشراق، وظلّ حتى لحظاته الأخيرة يمدّها بالامتنان عبر قصائده التي تُوّجت بالخلود والاستذكار رغم كثرة أعدائها.

* شاعر من الأردن

المساهمون