غالية بنعلي.. تذكرة عودة إلى العالم العربي

غالية بنعلي.. تذكرة عودة إلى العالم العربي

09 نوفمبر 2014
+ الخط -

من تسنح له فرصة حضورها على المسرح، سيشاهد راقصة غجرية تبدو وكأنها جاءت توّاً من إحدى حلقات الرقص الأندلسية، ومن يسمع صوتها سيتبادر إلى ذهنه صورة محاربة قادمة من صحراء الجنوب التونسية.

إنها "بنت الريح" غالية بنعلي (1968)، ولدت في بروكسل، وعاشت طفولة "هادئة، ساحرة" في مدينة "جرجيس" جنوبي تونس. الفرنسية كانت لغتها الرئيسية في طفولتها، ما جعلها تواجه صعوبةً بالغةً في علاقتها مع اللغة العربية. اشتباكاتها الأولى مع الموسيقى كانت من خلال حفظ القرآن في المدرسة من خلال تجويده.

في بداية التسعينيات، عادت بنعلي إلى مسقط رأسها بروكسل لدراسة التصميم الغرافيكي، حيث تعرّفت هناك إلى عازف العود العراقي، مفضل غلوم، الذي كان له فضل في إدخالها عالم الموسيقى الذي أنقذها من حالة "الوحشة والخوف والتساؤلات" التي كانت تعيشها.

تُعلّق على مرحلة البدايات تلك: "لم يكن أمامي سوى الموسيقى، لم أكن أمتلك أي أدوات، ولم أدرس الموسيقى، كما لم يخطر في بالي وقتها بأنني سأحترف الغناء. لقائي مع غلوم كان حدثاً هاماً في حياتي؛ إذ كان يصطحبني إلى جلسات الموسيقى الخاصة، مع جنسيات وخلفيات ثقافية وموسيقية متعددة، من أتراك وهنود وغجر وأوروبيين. جلسات وضعتني على الطريق، ومنحتني الفرصة كي أتعرَّف وأفهم العديد من الأنماط الموسيقية المختلفة عن ثقافتي وموروثي الموسيقي، وبالتالي شكّلتني موسيقياً. وبينما كان اختلاف اللغات يحول دون تواصل الحاضرين في هذه الجلسات، كانت الموسيقى لغة التواصل الوحيدة".

يمنحنا هذا التعليق مفتاحاً لفهم موسيقى بنعلي ونتاجها على مر السنوات الماضية، حيث من الصعب القبض على هوية موسيقية معينة. فلا لون أو شكلاً موسيقياً خاصاً بها، وكأنها ما تزال في حالة تجريب؛ تبحث عن شكلها الموسيقي الخاص.

وهي بدورها تؤكد ذلك: "الحياة كلها بمثابة تجريب. الغجر يسافرون بدافع السفر نفسه. لا يشغلني الوصول بقدر ما يشغلني التنقّل". هكذا، يحفل تاريخها الموسيقي بالعديد من التجارب المختلفة غير المتجانسة، بل والمتناقضة أحياناً، من الجاز والفلامنكو، مروراً بالفلكلور العربي والموسيقى الكلاسيكية العربية، وانتهاءً بالموسيقى الصوفية أو الإلكترونية؛ وكلها أنواع يحدث أن تؤدّيها في حفل موسيقي واحد.

خامة الصوت الرخيمة القوية، الجافة والمليئة بالعواطف، إضافةً إلى طريقة الغناء المميزة التي قد يصاحبها الرقص أحياناً؛ شكّلتا عنصري قوة رئيسيين في نتاج بنعلي.

إلا أننا نشعر أحياناً بالتقشف في التوزيع الموسيقي المصاحب لأدائها، حيث تظهر في معظم حفلاتها مع عدد قليل جداً من العازفين، وأحياناً قد تكتفي بآلة العود فقط، ما يدفعنا إلى التساؤل حول ما إن كان هذا هو الأسلوب الموسيقي الذي تتّبعه، أم أنها تواجه صعوبة في العمل مع الموسيقيين.

وتجيب الفنانة بأنها تحاول أن تبتعد عن "العجقة الموسيقية"، كما أن تكوينها الموسيقي كان "يعتمد دائماً على الصوت الغنائي، حيث تسيطر أصوات عبد الباسط عبد الصمد، وأم كلثوم، وأديب الدايخ، وصباح فخري".

في جعبة بنعلي أربعة ألبومات: "وايلد هريسة" (2001) مع فرقة "تمنا"؛ "روميو وليلى" (2003) وهو بمثابة "مانفستو ذاتي" يطرح مواضيع الحريات والاختلاف، عن مرحلة مضطربة عاشتها الفنانة؛ "البلنا" (2006) الذي مزجت فيه الموسيقى العربية مع الهندية؛ "غالية تغني لأم كلثوم" (2009) الذي حقق نسبة مبيعات عالية في السوق الأوروبية، وشكّل تذكرة عودة إلى العالم العربي، حيث لم تكن معروفة قبله، إذ كان نشاطها الفني محصوراً في أوروبا.

تقول بنعلي إن بحثها الموسيقي "يعتمد على التجريب"، ومعرفتها العلمية بالموسيقى "محدودة". ورغم اشتغالها على الشعر العربي القديم والحديث، إلا أنها تعترف أيضاً بأن معرفتها "باللغة العربية الفصحى، ليست قوية كفاية".

ومع أن الفرنسية رافقت نشأتها وتعليمها، إلا أنها لم تجرب جدياً الغناء بهذه اللغة: "كانت محاولات قليلة للغناء بالفرنسية، لكنني لم أشعر بأنها تمنحني التجلي والسلام الوجداني، ولهذا أصرّيتُ منذ البداية على التمكن من اللغة العربية والغناء بها، وهي اللغة التي أشعر بكيميائها وطاقتها، وتسمح لي بالتحليق والتجلي، بعكس الفرنسية التي تبقيني على الأرض".

قلة تعرف بنعلي كفنانة تشكيلية، لكنها تُنتج بين الحين والآخر أعمالاً بصرية لافتة، كما كان لديها تجارب عدة في السينما، من بينها تجربة مع المخرجة التونسية مفيدة التلاتي، وأخرى مع المخرج الفرنسي طوني كاتليف. ومع أن الموسيقى تطغى على نشاطها، إلا أنها ما زالت تمارس "الرسم والتصميم في أوقات الخلوة، وهي بمثابة صلاة تُكمِّل الموسيقى، تعطيها، ولا تأخذ منها".

تقول الفنانة إن أوروبا منحتها الأشياء التي كانت تبحث عنها، ولم تأخذ منها سوى الأشياء التي كانت تكرهها. ومع ذلك، فإنها تحلم حالياً بالاستقرار في تونس أو مصر.

وعند سؤالها حول نظرتها إلى الأوضاع والتغيرات التي تمر بها تونس الخارجة توّاً من تجربة الانتخابات البرلمانية، تجيب: "أنا لا أؤمن بالسياسيين، ولا أعتقد بأن السياسيين قادرون على أن يوفّروا لنا الحرية والحياة الأفضل. يمكن القول بأنني متشائمة في ما يتعلق بالشق السياسي، لكنني جد متفائلة بالناس، وبالفقراء الذين يبحثون عن الكرامة والحرية".

وحول الأحداث التي تعصف بمنطقتنا، تقول: "المنطقة العربية هي في حالة مخاض. هنالك جنون ووجع كبير، لكن النور يطغى على الظلام. أعتقد بأن المنطقة والناس أنفسهم في حالة بعث، ولا أتخيل أن الفكر والإبداع والجمال قد يتوقف في لحظة.

وما دمنا نعرف كيف نضحك ونغنّي ونرقص، هنالك أمل. الثورات العربية أظهرت معظم المشاكل التي كنا نعاني منها إلى جانب الديكتاتوريات، وهذا أمر طبيعي وصحي. الثورات فتحت عيون الناس أكثر، وأدخلتنا في حقبة جديدة ما زلنا في بدايتها، والبدايات دائماً صعبة".

المساهمون